{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ} الذين قد تحسبون حسابهم في علاقاتكم الودية مع الكفار لتحفظوهم ،ولتأمنوا عليهم منهم ،إذا كانوا يعيشون في ديارهم ،فما هي قيمة أن يرضى عنكم هؤلاء في ما تقدمون لهم من مواقف لحساب الكفار ،إذا كان الله يغضب عليكم ...لذلك عندما تقفون غداً بين يديه ،{يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} ليكون الحكم الفاصل الذي يحسم الموقف في ما يختلف فيه الناس من كل القضايا المتصلة بمسألة الحق والباطل ،فهو وحده الحاكم ،وليس لأحدٍ أي تأثيرٍ في مسألة المصير ،فالله يقضي على بعض الناس بدخول النار ،ويقضي لبعضهم بدخول الجنة .وقيل: إن المراد بالفصل بين الناس هو تقطيع الأسباب التي تربط بينهم رابطة نسبٍ ،أو رابطة صداقةٍ ،أو زواجٍ أو نحو ذلك .والظاهر أن صاحب هذا القولوهو العلامة الطباطبائي في الميزانقد استوحى هذا التفسير من الفقرة الأولى التي تؤكد عدم انتفاع الإنسان بأرحامه وأولاده[ 1] .
ولكنّ الظاهر أنها واردةٌ في سياق الحديث عن مواجهة حساب المسؤولية من دون أي ناصر حتى من أقرب الناس إلى الإنسان .وهذا ما تعبر عنه عبارة{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ} فلا حاجة لتأكيد مسألة انقطاع العلاقات بينهم يوم القيامة ،لأن ذلك هو ما توحي به الكلمة ،أما مسألة الفصل التي تعني قرار الحسم في مقام الجزاء ،فإنها تنسجم مع عدل الله ،{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم التي تخضعون فيها للحساب ،والله العالم .
مع حديث مناسبة النزول ؛عرض ومناقشة:
وقد جاء في مناسبة نزول هذه الآيات في الدر المنثور في ما أخرجه أحمد والحميدي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معاً في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله( صلى الله عليه وسلّم ) أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ( موضع في طريق مكة ) فإن بها ظعينة ( المسافرة ) معها كتاب فخذوه منها فائتوني به . فخرجنا حتى أتينا الروضة ،فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب .قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب ،أو لتلقين الثياب ،فأخرجته من عقاصها ،فأتينا به النبي( صلى الله عليه وسلّم ) فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناسٍ من المشركين بمكة ،يخبرهم ببعض أمر النبي( صلى الله عليه وسلّم ) ،فقال النبي ( صلى الله عليه وسلّم ): ما هذا يا حاطب ؟قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله إني كنت أمرءاً ملصقاً من قريش ولم أكن من أنفسها ،وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ،فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ،فقال النبي ( صلى الله عليه وسلّم ): صدق،فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ،فقال: إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم،ونزلت فيه:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}[ 2] .
وقد لوحظ على هذه الرواية ،أولاً: إن ما فعله حاطب لا ينطبق على جو الآية ،لأن ما صدر منه لم يكن لوناً من ألوان الولاية للمشركين ،بل كان حالةً طارئةً للتوصل إلى حماية أهله هناك ،من خلال اليد التي يصطنعها عندهم ،ولهذا لم يجد النبي في فعله شيئاً كبيراً ،بل صدقه في اعتذاره وسكت عن أي إجراءٍ ضده .
وثانياً: إن ما جاء في الروايةلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتملا يمكن أن يؤخذ بظاهرهإذا كان النص صحيحاًبل لا بد من توجيهه بما يتناسب مع القواعد الإسلامية في مسألة الجزاء وفي مسألة الرخصة ،لأن ظاهره هو الرخصة لأهل بدر أن يرتكبوا ما شاؤوا من المحرمات ،وأن يتركوا ما يشاؤون من الواجبات ،وأن يبتعدوا عن أي خطٍ إسلاميٍ في كل مواقف الإنسان المسلم في الحياة ،ما يعني إلغاء الحدود الإسلامية بالنسبة إليهم .وهذا مما لا يتقبله أيّ ذهنٍ إسلاميٍّ ،لا سيما إذا عرفنا أن عظمة أهل بدر كانت من أجل حماية الإسلام من الضغوط القاسية التي يضغط بها أهل الشرك عليه ،ليستقيم الخط الإسلامي في الحياة كما أراده الله أن يتحرك في حياة الناس ،مع ما يمثله ذلك من قوة الإيمان ،وروعة الالتزام في شخصياتهم .فكيف يكون ذلك أساساً للرخصة في الانحراف عن خط الالتزام ؟! .
هذا مع ملاحظة أن النبي حدَّ مسطح بن أثاثة ،بعد ما نزلت براءة عائشة ،وكان من الآفكين ،في الوقت الذي كان فيه من السابقين الأولين من المهاجرين ،وممن شهد بدراً كما في صحيحي البخاري ومسلم .ولا يبعد أن يكون هذا الكلام من النبي( ص ) على تقدير صحة الرواية ،وارداً على سبيل المبالغة في اعتبار الجهاد في بدر في قيمته بالمستوى الذي لا يدانيه عمل ،بحيث كان مؤهلاً لأن يغفر الله للمجاهد كل ذنوبه ،لأن النتائج العملية في معركة بدر تمثل الانطلاقة القوية للانتصار الذي ركز قاعدة المستقبل للإسلام .
ولكن هذا لا يمنع أن يؤاخذ المجاهد بذنوبه المستقبلية التي تمثل انحرافه عن المضمون العميق لبدر في محتواه الإيماني ،فإن معنى ذلك أنه لم يحتفظ ببدريته في خط الاستقامة مع الإسلام ،والله العالم .