{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} ربما كان المراد من الأميين مطلق العرب ،لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون ،في الغالب ،وربما كان المراد بهم حسب التعبير اليهودي عن غيرهم من الأمم أنهم «جوييم » باللغة العبرية ،نسبة إلى الأمم ،باعتبار أنهم شعب الله المختار ،وغيرهم هم الأمم .وربما كان المراد بهم أهل مكة نسبة إلى أم القرى .وقد يكون الوجه الأول أقرب إلى الاعتبار لوجوه عدة .{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ} ليستمعوا إليها ويتفهموها ،وينفتحوا من خلالها على الأبعاد الواسعة للمفاهيم العامة التي تفلسف لهم نظرية الإسلام عن الألوهية والتوحيد وعن حركة الكون والحياة ،وتقودهم إلى التعرف على المدخل إلى مواقع التغيير في صنع الإنسان الجديد ،{وَيُزَكِّيهِمْ} بالنفاذ إلى أعماق مشاعرهم ليطهرها من كل الرواسب العفنة التي عششت فيها من خلال عصور التخلف ،ومن كل الوحول الفكرية التي تجمعت في داخلها ،من مواقع الجاهلية ،ليكون الإنسان هو الإنسان النقي الصافي الذي ينمو في مشاعره ،كما ينمو في أفكاره وروحيته بين يدي الله في أرضٍ خالصةٍ من كل الشوائب التي تُعطّل عملية النمو ،أو تُحوِّل الزرع إلى عناصر مشوهةٍ لا تنتج إلا النتاج الرديء .
وعلى ضوء ذلك ،فإن دور الرسول هو تحريك المفاهيم الإسلامية في عملية تغيير الواقع الداخلي للنفسية العامة للأمة في ما توحي به كلمة «التزكية » ،من أجل أن يكون الإنسان المسلم هو الإنسان الفاعل الذي ينمو ويتطور في اتجاه الخير والبركة للحياة ،كوسيلةٍ عمليةٍ لتغيير الواقع الخارجي للحركة العامة للأمة ،وذلك بالوسائل الواقعية المتحركة بالقدوة الحسنة ،والتعويد على الأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم .
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} في ما يمثله الكتاب من المضمون الفكري والشرعي والمنهجي على صعيد النظرية الإسلامية العامة ،وفي ما توحي به كلمة الحكمة من تحريك المضمون في خط التطبيق العملي ،بحيث يتحول الإنسان إلى شخصٍ يفكر بواقعية وحكمةٍ ،فيزن الأمور بموازينها ،ويضع الأشياء في مواضعها ،في ما هو التوازن بين النظرية والواقع ،ما يجعل العلم منفتحاً على حركة الواقع في حياة الإنسان ،ويجعل الواقع منفتحاً على الكتاب في مسألة الوعي الحركي على أساس المفاهيم القرآنية الجديدة التي تدخل الروح في المضمون المادي فيتروح ،وتدخل الحس في المضمون الروحي فيعيش مع أجواء الحس ،في ما يحدثه من تغيير في مفاهيم الإنسان .
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} فقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون الجهل والتخلف والعصبيات الضيقة ،كما عبر عن ذلك جعفر بن أبي طالبفي ما روته كتب السيرةفي خطابه للنجاشي: «أيها الملك ،كنا قوماً أهل جاهليةٍ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ،ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف ،فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفته ،فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ،وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ،والكف عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ،وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ..» .
وليس معنى ذلك أن العرب لا يملكون شيئاً من الأخلاق الحسنة والعادات الجيدة ،فقد كانت لهم قيمهم العالية ،وعاداتهم الحسنة ،ولكنهم لم ينطلقوا في ذلك من قاعدةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ واسعةٍ من خلال نظرةٍ شاملةٍ للإنسان في دوره في الحياة وموقعه من الله ،ودوره في عبادته ،وتوحيده له ،ورفضه للتخلف في نوعية العقيدة وحركتها في وجدانه ،مما سهل للتفاهات الفكرية أن تنفذ إليه وللضلالات الروحية أن تحكم وعيه ،وللأهواء الضالة الفاسدة أن تسيطر على مشاعره ،بحيث تحولت شخصيته إلى قطعٍ متناثرة ،تأخذ من كل موقعٍ قطعة ،من دون أن يكون هناك أي نوعٍ من الترابط فيما بينها ،بحيث تمثل كلاً متكاملاً مترابطاً في وحدةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ شاملةٍ .وهذا هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الضلال لأنه يفقد الميزان الذي يزن به صحيح الأمور وفاسدها ،والقاعدة التي يرتكز عليها خط حياته في ما يحكم البداية والنهاية .
إن قيمة النهج الإسلامي في تربية الإنسان ،أنه يؤكد على الوحدة الفكرية التي تتفرع عنها كل القضايا ،بحيث تلتقي عندها وحدة الشخصية في نطاقها العملي .وهذا ما استطاع أن يجعل من المسلمين أمةً ذات أبعادٍ ثقافيةٍ وروحيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ في مستوى حركة الإنسان في العالم .