وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله ،يتحدّث القرآن عن بعثة الرّسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدّوس .حيث يقول: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ) .
وذلك من أجل أن يطهّرهم من كلّ أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد ( ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) .
ومن الملفت للنظر أنّ بعثة الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الخصوصيات التي لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق الإعجاز ،تعتبر هي الأخرى إشارة إلى عظمته عزّ وجلّ ودليل على وجوده إذ يقول: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا ...) وأبدع هذا الموجود العظيم بين أولئك الأميين ..
«الأميين » جمع ( أمي ) وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة ( ونسبته إلى الأم باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهد أو مدرسة غير مدرسة الأم ) .
وقال البعض: إنّ المقصود بها أهل مكّة ،لأنّ مكّة كانت تسمّى ( بأم القرى ) ،ولكنّه بعيد .
قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بها «اُمّة العرب » مقابل اليهود وغيرهم ،واعتبروا الآية ( 75 ) من سورة آل عمران شاهدة على هذا المعنى حيث يقول: ( قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) وذلك باعتبار أنّ اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم أهل الكتاب وهم أهل القراءة والكتابة ،بينما كان العرب على العكس من ذلك .ولكن التّفسير الأوّل أنسب .
والجدير بالذكر أنّ الآية تؤكّد على أنّ نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الأميين الذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليماً وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقّانيتها ،لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص أمي أيضاً ،بل هو نور أشرق في الظلمات ،ودوحة خضراء في قلب الصحراء ،وهي بحدّ ذاتها معجزة باهرة وسنداً قاطعاً على حقّانيته ...
ولخّصت الآية الهدف من بعثة الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ثلاثة أمور ،جاء أحدها كمقدّمة وهو تلاوة الآيات عليهم ،بينما شكّل الأمران الآخران أي ( تهذيب وتزكية النفس ) و ( تعليمهم الكتاب والحكمة ) الهدف النهائي الكبير .
نعم ،جاء الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليعطي الإنسانية ويعلّمها العلم والأخلاق ،لتستطيع بهذين الجناحين ( جناح العلم وجناح الأخلاق ) أن تحلّق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى الله لتنال القرب منه .
والجدير بالملاحظة أننا نجد بعض الآيات القرآنية تذكر «التزكية » قبل «التعليم » بينما تقدّم آيات أخرى «التعليم » على «التزكية » .ففي ثلاثة من الموارد الأربعة التي ذكر فيها «التزكية » و «التعليم » تقدّمت التزكية على التعليم بينما تقدّم التعليم في المورد الرابع .
وفي الوقت الذي يشار في هذا التعبير إلى التأثير المتبادل لهذين العنصرين ( الأخلاق وليدة العلم ،كما أنّ العلم وليد الأخلاق ) تظهر أيضاً أصالة التربية ومدى الاهتمام بها .علماً أنّ المقصود بالعلم العلوم الحقيقية لا العلوم التي اصطلح عليها بأنّها علم وأُلبست ثوب العلم .
ويمكن أن يكون الفرق بين «الكتاب » و «الحكمة » هو أنّ الأوّل إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنّة الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ويمكن أيضاً أن يكون «الكتاب » إشارة إلى أصل العقائد والأحكام الإسلامية ،والثانية إشارة إلى فلسفتها وأسرارها .
ومن النقاط الجديرة بالملاحظةكذلكأنّ الحكمة تعني المنع بقصد الإصلاح ،ولهذا يقال للجام الفرس «حكمة » لأنّه يمنعها ويجعلها تسير في مسارها الصحيح ،وبناءً على ذلك فإنّ مفهوم هذه الدلائل عقلي ،ومن هنا يتّضح أنّ ذكر الكتاب والحكمة بشكل مترادف يراد منه التنبيه إلى مصدرين مهمّين من مصادر المعرفة ( الوحي ) و ( العقل ) .
بعبارة أخرى: إنّ الأحكام السماوية وتعاليم الإسلام رغم أنّها نابعة من الوحي الإلهي غير أنّها يمكن تعقّلها وإدراكها بالعقل «المقصود كلّيات الأحكام » .
وتعبير «الضلال المبين » إشارة مختصرة معبّرة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام .وأي ضلال أوضح وأسوأ من هذا الضلال الذي يعبد فيه الناس أحجاراً وأخشاباً يصنعونها بأنفسهم ويلجؤون إليها لحلّ مشاكلهم وإنقاذهم من المعضلات .
يدفنون بناتهم وهنّ أحياء ثمّ يتفاخرون بكلّ بساطة بهذا العمل قائلين: إنّنا لم ندع ناموسنا وعرضنا يقع بيد الأجانب .
كانت صلاتهم ودعاؤهم عبارة عن تصفيق وصياح إلى جانب الكعبة ،وحتّى النساء كن يطفن حول الكعبة وهنّ عراة تماماً ،ويحسبون ذلك عبادة .
كانت تسيطر على أفكارهم مجموعة من الخرافات والأوهام ،وكانوا يتفاخرون ويتباهون بالحرب ونزف الدماء والإغارة على بعضهم البعض .المرأة كانت تعدّ بضاعة لا قيمة لها عندهم ،يلعبون عليها القمار ،ويحرمونها من أبسط الحقوق الإنسانية .كانوا يتوارثون العداوة والبغضاء ،ولهذا أصبحت الحروب وإراقة الدماء أمراً عادياً لديهم .
نعم لقد جاء الرّسول وأنقذهمببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبّط وزكّاهم وعلّمهم .وحقّاً إنّ تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضالّ يعتبر أحد الأدلّة على عظمة الإسلام ومعاجز نبيّنا العظيمة .