{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} فلم يكن للباطل أيَّ موقعٍ في خلقهما ،بل كان كل شيءٍ فيهما منطلقاً من غايةٍ وخاضعاً لحكمةٍ ،ومتحركاً في خطةٍ تربط الوجود كله برباط واحدٍ يجعل لكل ظاهرةٍ موقعاً يتصل ببعض المواقع الأخرى ،لتكون كل واحدةٍ مكملةً للأخرى في تحقيق الهدف الكبير .
ولعلّ الإيحاء بالحق في خلق السماوات والأرض يشير إلى الحق في خلق الإنسان وفي حركة وجوده ،فلا مجال فيه للعبث ولا للباطل ،ما يوحي بالمعاد الذي هو المظهر الحي للغاية التي خلق الإنسان من أجلها ،ليواجه الإنسان في الآخرة نتائج عمله في الدنيا ،لتكون لديه الجدية في مواجهة كل الأشياء المحيطة به ،وكل الأوضاع المجتمعة عنده على أساس الحق ،في ما هي الحكمة في العمل ،والغاية في مواقع الهدف .
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} في ما تتمثل به الصورة العامة للإنسان من تناسق الأعضاء ،وترتيبها وتجهيزها بالأجهزة المتنوعة المتكاملة ،في تحقيق النتائج العملية التي تنسجم مع الحكمة التي خلق الإنسان من أجلها في طاعته لربه وعبادته له ،والقيام بمسؤوليته الكبرى في خلافته عن الله في إدارة شؤون الحياة ،في نطاق قدراته الخاصة ،فلا عذر للإنسان في التخلي عن مسؤوليته العامة والخاصة ،من خلال قدراته العقلية والجسدية ،لأن الله قد أحسن تجهيزها في نطاق الصورة العامة بأحسن تجهيز في أحسن صورة .
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} الذي يقف الناس جميعاً في ساحته ليواجهوا نتائج قيامهم بدورهم المسؤول ،أو نتائج ابتعادهم عنه ،ما يفرض عليهم التدقيق في ما يأخذون به ،أو في ما يدعونه من أعمال وأوضاع .
وقد حاول صاحب الميزان أن يستوحي من هذه الآيات فكرة البعث ،فقالتعليقاً على هذه الآية: «وبهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالى ،فإنه تعالى كان ملكاً قادراً على الإطلاق ،له أن يحكم بما شاء ويتصرف كيف أراد ،وهو منزه عن كل نقص وشين ،محمود في أفعاله ،وكان الناس مختلفين بالكفر والإيمان ،وهو بصير بأعمالهم ،وكانت الخلقة لغايةٍ من غير لغوٍ وجزاف ،كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمةٍ خالدةٍ ،فيعيشوا فيها عيشةً باقيةً على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر والإيمان ،وهو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم ويشقى به كافرهم ،وإلى هذه النتيجة يشير بقوله:{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
ونلاحظ على ذلك ،أن دراسة هذه الآيات توحي إلينا بأن الغرض من تتابع الصفات ،هو إيجاد الحالة الروحية العقيدية التي تطل على الله في الشعور في صفاته ،وعلى حركة الإيمان به في خط العمل ،والإطلالة من خلال ذلك على مسألة البعث ،كجزءٍ من الهيكل الشامل للعقيدة لا كغايةٍ من الحديث كله ،لأن السورة لا تطرح الإيمان باليوم الآخر كمشكلة فكريةٍ ،بل تطرحه على أساس ما يمثله من مفردةٍ من مفردات العقيدة .والله العالم .