ثم جاء بعدها قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [ 3 -4] .
فخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة آيتان من آيات الدلالة على البعث ،كما قال تعالى في الأولى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [ غافر: 57] .
وقال في الثانية:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [ يس: 79] .
ولذا جاء عقبها قوله:{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .
أي بعد الموت والبعث .فكأنه يقول لهم: هو الذي خلقكم وخلق لكم آيات قدرته على بعثكم ،من ذلك خلق السماوات والأرض ،ومن ذلك خلقكم وتصويركم في أحسن تقويم ،فكأن موجب ذلك الإيمان بقدرته تعالى على بعثكم بعد الموت ،وبالتالي إيمانكم بما بعد البعث ،من حساب وجزاء وجنة ونار ،ولكن فمنكم كافر ومنكم مؤمن .
وقد جاء بعد ذكر الأمم قبلهم: وبيان أحوالهم جاء تفنيد زعم الكفار بالبعث والإقسام على وقوعه في قوله تعالى{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبيِى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [ التغابن: 7] .لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ،ويشهد لهذا التوجيه في قوله تعالى في سورة الإنسان:{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [ الإنسان: 1 -3] .
فقوله تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [ الإنسان: 2] كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [ التغابن: 2] .
ثم قال:{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [ الإنسان: 2] وهما حاستا الإدراك والتأمل ،فقال:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [ الإنسان: 3] مع استعداده للقبول والرفض .
وقوله:{إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [ الإنسان: 3] مثل قوله هنا:{فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [ التغابن: 2] أي بعد التأمل والنظر وهداية السبيل بالوحي ،ولذا جاء في هذا السياق من هذه السورة:{فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [ التغابن: 8] .
وبكل ما تقدم في الجملة يظهر لنا أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعاً وبصراً ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى ،ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم وأرسل إليه رسله وهداه النجدين ،ثم هو بعد ذلك إما شاكراً وإما كفوراً ولو احتج إنسان في الدنيا بالقدر لقيل له: هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك ،أم أن الله أمرك ونهاك وبين لك الطريق .
وعلى كل ،فإن قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها ،كما قال علي رضي الله عنه: القدر سرّ الله في خلقه .
وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا ذُكر القضاء فأمسِكوا "،ولكن على المسلم النظر فيما أنزل الله من وحي وبعث من رسل .
وأهم ما في الأمر هو جري الأمور على مشيئة الله وقد جاء موقف عملي في قصة بدر ،يوضح حقيقة القدر ويظهر غاية العبر في قوله تعالى:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [ الأنفال: 43] .
فهو تعالى الذي سلم من موجبات التنازع والفشل بمقتضى علمه بذات الصدور .
ثم قال:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ليقضي اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [ الأنفال: 44] ،فقد أجرى الأسباب على مقتضى إرادته فقلل كلاً من الفريقين في أعين الآخر ليقضي الله أمراً كان في سابق علمه مفعولاً ،ثم بين المنتهى ،{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} ،والعلم عند الله تعالى .