وهذه مشكلة أخرى عاشها النبي محمد( ص ) في بيته الزوجي ،من خلال بعض زوجاته في ما حدث به من سرٍّ كان من المفروض أن لا تفشيه ،لأن السر في طبيعته يمثل لوناً من ألوان الائتمان الذي ينبغي لمن اؤتمن عليه أن يحافظ على سريته كما يحافظ على الأمانة ،بقطع النظر عن الشخص الذي يملك السر ،فكيف إذا كان صاحب السرّ نبياً ،وكانت الأمينة عليه زوجته ،في ما يفرض على الزوجة ،لا سيما إذا كانت زوجة النبي ،لأن أسرار الزوج وخصوصياته في الحياة الزوجية ،تمثل جانب الأهمية الكبرى في سلامة البيت الزوجي واستمرار العلاقة الزوجية ،فإنّ الإنسان يتحرك في بيته بعفويةٍ واسترسال لا يعيشهما في داخل المجتمع العام ،ما يجعله يبرز عارياً في بعض أسراره في حديثه مع زوجته ،كما يبدو عارياً في خلواته الشخصية في جسده .
وهكذا نبأت هذه الزوجة بالسر الذي ائتمنها عليه النبي( ص ) ،فنزل القرآن عليه ليعالج هذه المسألة الخاصة ،باعتبار أن خصوصيات الرسول ليست أموراً ذاتيةً له ،في ما قد يتحدث فيه الناس من الفصل بين الشؤون الخاصة والشؤون العامة للنبي أو للإمام أو للولي أو القائد ،لأن له صفةً رسمية لا بد له من أن يتقيد فيها بالحدود العامة ،وله صفةٌ شخصيةٌ يمكن أن يمارسها بحريته من دون أن يكون لأحدٍ دخلٌ فيها .
ولكن للإسلام رأياً آخر في ذلك ،فإنّ قيمة المسؤول الأول في مسؤوليته ،تتناول خصوصياته الذاتية في التقييم ،كما تتناول شؤونه العامة من خلال وحدة عناصر الشخصية في ما تفرض من القيمة في عناصر المسؤولية ،وفي ضوء ذلك ،كان الحديث عن بيت النبي( ص ) جزءاً من الحديث عن حياته وعن مسؤوليته ،وعن ساحته الخاصة المتصلة بالساحة العامة ،لا سيما إذا كانت القضية متصلةً بحالته النفسية التي تتأثر بها حركة الرسالة في حياته .
وقد نجد في الحديث عن نقاط الضعف لبعض أمهات المؤمنين ،أن صفة الزوجية للنبي لا تمنع من التأكيد على الجانب الشخصي من حياتهن بالطريقة التي تخضع فيها للنقد ،في الصفة الإنسانية الطبيعية ،وفي قيمة الالتزام الرسالي ،من خلال السلوك الشخصي ،بالمستوى الذي يوحي بأن الصفة لا تمنحهن امتيازاً يعفيهن من المسؤولية ،بل يفرض عليهن مسؤولية كبرى ،أكثر خطورةً من مسؤولية بقية النساء .
{وَإِذَ أَسَرَّ النَّبيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} في ما يسر به الزوج إلى زوجاته من أحاديث خاصة ،تتعلق ببعض أوضاعه الشخصية في علاقاته الذاتية أو تتعلق ببعض الأوضاع العامة .وقد جاء الحديث في السيرة أن هذه الزوجة هي حفصة .وربما أراد لها النبي( ص ) أن لا تحدِّث به أحداً ،لأن المسألة المعينة فيه ،لا ينبغي أن تتجاوز الدائرة الخاصة .ولكن هذه المرأة لم تطق حمل هذا السرِّ لتحتفظ به لنفسها ،فأنبأت به عائشة ،في ما تتحدث به كتب السيرة للعلاقة الحميمة فيما بينهما ،بالمستوى الذي كانت فيه إحداهما لا تخفي شيئاً عن الأخرى .وربما كانتا تتعاونان على بعض التصرفات المشتركة التي تتصل بإدارة أوضاعهما الخاصة في مقابل الزوجات الأخرياتكما تتحدث عن ذلك بعض أحاديث السيرة النبوية الشريفة.وهكذا انتقل الحديث من حفصة إلى عائشة ،{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} وعرّفه بذلك{عَرَّفَ بَعْضَهُ} في حسابه لها{وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} فأهمل الحديث عنه ،{فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} استغربت ذلك ،وربما دار في ذهنها أن صاحبتها هي التي كشفت إذاعتها للسرّ ،لأن الحديث لم يتجاوزهما ،ولم تكن تفكر أن الوحي يتدخل لتعريف النبي محمد( ص ) المسائل الخاصة التي تدور في بيته الزوجي ،لأنها من الأمور التي لا تتصل بالرسالة ،ولهذا كانت تحسّ بالأمن من انكشاف سرّها ،بعد أن كانت واثقة من رفيقتها في كتمانه .{قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} الذي يحفظ نبيّه في بيته مما يسيء إلى موقعه ،كما يحفظه في الساحات العامة من ذلك .وهنا ،كانت المسألة التوجيهية التي يريد الله لهما أن يلتزماها ،ويختارا الموقف الذي يرغبن في التزامه في مستقبل حياتهما مع النبي( ص ) ،في خطابٍ قويٍّ حاسمٍ يضع الموقف بين خيارين في الخط العملي لهما .