مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور: «أخرج الحاكم وصحّحه ،والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس ،أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) فقرأ عليه القرآن ،فكأنه رقّ له ،فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ ،إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوه لك ،فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله .قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً .
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكرٌ أو أنك كارهٌ له .
قال: وماذا أقول ؟فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ،ولا برجزه ولا بقصيده مني ،ولا بشاعر الجن ،والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ،ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة ،وإنه لمثمر أعلاه ،مغدقٌ أسفله ،وإنه ليعلو وما يُعلى ،وإنه ليحطم ما تحته .
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه .قال: دعني حتى أفكر ،فلما فكّر قال:هذا سحر يؤثر ،يأثره عن غيره ،فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}
طريقة المشركين في إبعاد الناس عن النبي( ص )
هذه هي قصة هذه الآيات في سبب نزولها ،كما رواها الرواة ،فإذا صحت ،فإنها تعطينا الفكرة عن الطريقة التي كان يحاول أبو جهل والمشركون معه أن يحاصروا النبي في دعوته ،فلا يسمحون لأحدٍ أن يلين قلبه للقرآن ،أو تنفتح روحه للنبي في عملية تأثرٍ ورقّةٍ ،لأنهم يخشون أن يتحوّل هذا التعاطف إلى انفتاحٍ على الإِسلام من نافذة القلب والشعور ،من خلال كلمات القرآن القريبة للعقل والوجدان .فلما رأوا الوليد بن المغيرة ،وهو من شيوخ قريش ،قد رقّ قلبه ولان لكلمات الإسلام ،أرادوا أن يخوّفوه من غضب قومه عليه ،بعد أن عرضوا عليه المالوهو في غنًى عنهوقد اتهموه بأن رقّته أمام القرآن لم تكن عن قناعةٍ ،بل كانت عن طمع بالمال الذي يمكن أن يقدّمه إليه النبي( ص ) الذي لم يعهد فيه أنه يملك المال الوفير الذي يؤلّف به قلوب الكافرين في تلك المرحلة ،وهي مرحلة الدعوة الأولى التي كان النبي( ص ) يعاني فيها قسوة الأحوال المادية ...فما كان منه ،بعد أن حاول الدفاع عن تهمة النبي بالشعر ،إلا أن يطلق عليه كلمة السحر التي وجد لها مخرجاً ،باعتبار أنها تشبه السحر في تفريق الأب عن ابنه ،وتفريق الابن عن أبيه ،مما أرضى أبا جهل وقومه ،سيّما بعد أن عاد إلى مواقعه الكافرة .
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إنه التهديد الإلهي الذي يطبق على هذا الإنسان المعتد بقوّته ،المنفتح في كبريائه ،فيتحوّل إلى حشرةٍ صغيرةٍ لا تتماسك في شيءٍ .إن الله يذكّره بأنه قد خلقه وحده من دون أن يشاركه أحدٌ في ذلك ،أو يكون المعنى أن يدعه مع هذا المخلوق الذي خلقه وحده لا مال له ولا بنين ،معلناً: إنني الذي أتكفل بعذاب هذا الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً .