{وَجِلَتْ}: الوجل: الخوف .
من هم المؤمنون ؟
وفي ضوء ذلك ،كانت الجوانب الروحية والعملية هي التي تقدّم صورة المؤمنالنموذجفي ما جاءت به الآيات التالية:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} ،وعاشت الشعور بالخشية منه ،في ما يتمثلونه من عظمة الله في مظاهر قدرته في خلقه ،وفي وحدانيته ووجوده ،بالمستوى الذي يشعرون معه بأنّ الكون كلّه ظلٌّ لوجوده ،فهو الحقيقة وكل ما عداه خيال ...ولكنّ هذا الوجل لا يمثّل حالة انسحاقٍ يلغي في الإنسان الإرادة ،بل يمثّل حالة المسؤولية التي تحرك إرادته في الجانب المشرق من الحياة ،عندما توحي له بأن حركته ليست محكومةً لمزاجه أو مزاج الآخرين ،بل هي خاضعةٌ للقوّة المهيمنة التي تخطّط لإرادته كما تخطط لفكره ،وبذلك كان الخوف من الله حافظاً لإنسانيته من الانحراف تحت تأثير الضغوط ،ورادعاً له من الخضوع للشهوات والنزوات المنحرفة ،وموجّهاً له للسير في الخط المستقيم ...{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ،وذلك في ما تنفتح به أفكارهم وأرواحهم ومشاعرهم على الوحي النازل من الله على رسوله ،فيتأمّلون في آياته ،ويستمعون إليها في وعي المؤمن وروح المفكّر ،فيطوفون معها في آفاق الحياة ،ويحلّقون من خلالها في رحاب الله ،ويعيشون حركة المعرفة في مفاهيمها الشاملة ،وفي تأمّلاتهم العميقة ،وفي مشاهداتهم ونظراتهم المتنوّعة ...فيزدادون إيماناً في عملية ارتفاعٍ وعمقٍ ...
تلك هي قصة المؤمنين في إيمانهم ،فهم لا يتجمّدون أمام عناصر المعرفة الأولى ،ولا يعيشون حرفيّة الكلمات ،ولا يختنقون في الزوايا المحدودة للمفاهيم ،بل يظلّون في رحلةٍ دائمةٍ نحو المعرفة التي تنمي الإيمان وتطوِّره ،يستنفرون من أجلها كل طاقاتهم ،ويفتحون لها قلوبهم ،فيستزيدون مما يقرأون ويسمعون ،ويُزيدون في ما يفكرون ويحاورون ،حتى تكون آخر جرعة من المعرفة الإيمانية لديهم ،هي آخر لحظة من حياتهم .
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ،فهم يسيرون في كل دروب الحياة ،وعيونهم مشدودةٌ للسماء ،وقلوبهم مفتوحة لله ،لا يهزمهم خوف ،ولا يثيرهم قلق ،كل خطواتهم مدروسةٌ في الدرب الذي يقطعونه ،وفي الهدف الذي يتوجهون إليه .وكل طاقاتهم مستنفرةٌ متحركةٌ من أجل تحقيق الشروط الموضوعية للوسائل والأهداف ،لا يعيشون الاتكالية واللامبالاة والسلبية في أوضاع الحياة ومشاعرهم ،بل يعيشون المسؤولية والإيجابية والحركة المستمرة ،حتى إذا واجهوا بعض المصاعب والشدائد والتحديات في أجواء الحاضر والمستقبل ،ووقفوا في بعض المراحل أمام احتمالات المجهول ،في ما يمكن أن يهدم مشاريعهم ،أو يهزم مسيرتهم ،أو يوقعهم في مهاوي الخطر ،لجأوا إلى الله ،وأسلموا أمرهم إليه ،في ما لا يملكون الانتصار عليه بالقوة والفكر ،وتوكلوا عليه ،لتجتمع في داخل نفوسهم عناصر الثقة بالمستقبل ،من خلال حركة الإرادة معه في أفكارهم وأعمالهم في ما يستطيعون ،ومن خلال حركة الثقة بالله في أجواء الغيب في ما لا يستطيعون ،وذلك هو معنى التوكل في شخصية المؤمن ؛حركةٌ في الفكر والإرادة في نطاق الإمكانات ،وثقةٌ بالله في عمليّة استسلامٍ لإرادته وقدرته في نطاق الغيب .