{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة ،الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتصل بالإنسان من كل أمرٍ يهمّه أو يتعلق بشؤونه ،في رزقه ،وحركته ،وعمره ،ونحو ذلك .كما يتنزل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل( ع ) ،الذي امتاز عن الملائكة - حسب الأحاديث الكثيرة - بأنه الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس ،وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميز بقدرةٍ خاصةٍ غامضةٍ ،أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة ،ولكن ما هي تفاصيل ذلك الأمر ؟وما هي ملامحه الدقيقة ؟إن ذلك مما لم يبيّنه الله لنا ،ولكننا نعرف أن هناك بياناً لكل أمرٍ حكيم أمراً من عند الله ،وقد فسّره المفسرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتصلة بحياة الإنسان .
ومهما كان ،مما يمكن للإنسان فهم معناه ،وبلوغ مداه ،أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك ،فإن الآية توحي بأن هناك سراً ربّانياً يثيره الله في هذه الليلة في الكون الإنساني من خلال رحمته التي يرحم بها عباده ،ولطفه الذي يلطف به في حياتهم العامة أو الخاصة .
الاستعداد لليلة القدر
ولذلك جاءت التعاليم النبوية المستمدّة من الوحي الإلهي الذي أوحى به إلى نبيّه ،أو ألهمه إياه ،في ضرورة استعداده فيها للصلاة والابتهال والدعاء والانقطاع إلى الله ،والتقرب إليه بالكلمة الخاشعة ،والدمعة الخائفة ،والخفقة الحائرة ،والشهقة المبتهلة ،ليحصل على رضاه ،فيكون ذلك أساساً للتقدير الإلهي الذي يمثل عناية الله به ورعايته له ،وانفتاحه عليه بربوبيته الحانية الرحيمة .وذلك هو السر الذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر ،في مواقع إنسانيته ،ليلتقي - فيها - بالسرّ الإلهي في رحاب ربوبيته ،لينطلق الإنسان إلى ربه قائماً وقاعداً ،وراكعاً وساجداً ،في إخلاصه ،وفي ابتهاله ،وفي خشوعه ،لتكون هذه الليلة موعداً إلهيّاً يتميّز عن أيّ موعدٍ آخر .فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كل وقت ،ولكن لقاءه به في ليلة القدر شيءٌ آخر ،فهي{خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ،فالرحمة فيها تتضاعف ،والعمل فيها يكبر ،والخير فيها يكثر ،وعطايا الله تتزايد ،وهي - بعد ذلك - ليلة السلام التي يعيش فيها الإنسان روحية السلام مع نفسه ومع الناس ؛لأنها تحولت إلى معنى السلام المنفتح بكل معانيه على الله ،ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه ،ليعود طفل الحياة الباحث عن الله .