بعد أن عدّد سبحانه ما أنعم به على عباده في نشأتهم الأولى ،وفي خلْق الماء لهم لينتفعوا به ،وإنشاء النبات وما فيه من الثمرات ،وفي خلق الحيوان وما فيه من المنافع للانسان ،ذكَر هنا أن كثيراً من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا ،فكفروا بهذه النعم ،وجهلوا قدر المنعم بها ،وعبدوا غيره ،وكذّبوا رسلَه الذين أُرسِلوا اليهم ...فأهلكهم الله بعذاب من عنده .وفي هذا إنذارٌ وتخويف لكل من ينحرف ويكذّب ويعبد غير الله .
وقد مرّت قصةُ نوح في سورة هود بتفصيلٍ أوسعَ في الآيات 25 الى 49 ومر شرحها فلا داعي لتكرار ذلك ،وإنما أذكر موجَزا لبحثِ قيّم أورده الدكتور موريس بوكاي في كتابه « التوراة والإنجيل والقرآن والعلم» إذ يقول ما ملخصه:
« الاصحاحات 6 ،7 ،8 ،من سفر التكوين مكرسةٌ لرواية الطوفان ،ويشكل أدقّ روايتين غير موضوعيتين جنبا الى جنب ....والحقيقة أن في هذه الاصحاحات الثلاثة تناقضاتٍ صارخة .وتقول الرواية: إن الارض تغطّت حتى قمم الجبال وأعلى منها بالماء ،وتدمَّرت الحياة كلها ،وبعد سنةٍ خرجَ نوح من السفينة التي رست على جبلِ أراراط بعد الانحسار .
وتقول الرواية اليهودية إن مدة الطوفان أربعون يوما ،وتقول الرواية الكهنوتية إن المدة مئةً وخمسون يوماً .
ومعنى هذا أن البشريَّة قد أعادت تكوينها ابتداءً من أولاد نوح وزوجاتهم ....
إن المعطيات التاريخية تثبت استحالَة اتفاق هذه الرواية مع المعارفِ الحديثة .فإذا كان الطوفان قد حدث قبل ثلاثة قرون من زمن إبراهيم ،كما يوحي بذلك نصُّ سِفر التكوين في الأنساب ،فإن الطوفان يكون قد وقع في القرن 21 أو 22 قبل الميلاد .
وفي العصر الحديث لا يمكن تصديق هذا التاريخ ،إذ من المعلوم بأن حضاراتٍ متقدمةً بقيت آثارها خالدة قد نمت في هذه الفترة في بلاد ما بين النهرين وفي مصر .فكيف يكون الطوفان قد عمّ الأرضَ جميعها !!فالنصوص التوراتية إذنْ في تعارضٍ صريح مع المعارف الحديث .
وإن وجود روايتين لنفس الحدَث ،هذا بالاضافة الى التضارب الذي تحويانه ،يوضح بصورةٍ قطعية أن ايدي البشَر قد حوّرت الكتب التوراتية .
أما القرآن الكريم فإن رواية الطوفان فيه كما يبسطها تختلف تماماً عن رواية التوراة ،ولا تثير أيّ نقدٍ من وجهة النظر التاريخية .وذلك لأسباب بسيطة جداً ،فالقرآن لا يحدد الطوفان بزمان ،ولا يذكر كارثةً حلّت بالأرض قاطبة ،ولكنه يذكر عقاباً سُلِّط على قومِ نوح دون سواهم ،وهذا يدل دلالةً قاطعة على أن القرأن أُنزل بوحي من عند الله» .