ولما بين تعالى دلائل التوحيد ،تأثره بقصص بعثة الرسل لعلو كلمته ،فقال سبحانه:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا} أي الداعي إلى عبادة الله وحده ،بدعوى الرسالة منه{ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم ،كقوله تعالى [ يونس 78]{ وتكون لكم الكبرياء في الأرض}{ وَلَوْ شَاء اللَّهُ} أي إرسال رسول{ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً} أي من السماء{ مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي بمثل ما يدعو إليه{ فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له .قال الرازي:واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة ،لركاكتها ووضوح فسادها .وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا إلا لأنه من جنس الملك .وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات .فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر ،فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا .بل جعل الرسول من جملة البشر أولى .لما مرّ بيانه في السور المتقدمة .وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة .وأما قولهم{ يريد أن يتفضّل عليكم} فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله ،حتى يلزمهم الانقياد لطاعته ،فهذا واجب على الرسول .وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد ،فالأنبياء منزّهون عن ذلك .وأما قولهم{ ما سمعنا بهذا} فهو استدلال بعدم التقليد ،على عدم وجود الشيء .وهو في غاية السقوط .لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء .فعدمه من أين يدل على عدمه ؟ وأما قولهم{ به جنة} فقد كذبوا .لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله .وأما قولهم{ فتربّصوا به} فضعيف .لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوّته وهي المعجزة ،وجب عليهم قبول قوله في الحال ،ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته .لأن الدولة لا تدل على الحقيقة .وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله ،سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر .ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور ،لا جرم تركها الله سبحانه .انتهى