[ 11] ليقضوا تفثهم: قيل: إنها بمعنى ليزيلو أوساخهم أو يحلقوا شعرهم ويقلموا أظفارهم ؛وذلك حينما يتحلّلون من الإحرام وقيل إنها بمعنى ليقضوا ما عليهم من واجبات ومناسك ،أو ليقضوا ما لهم من حاجات .
في هذه الآيات:
/م25
تعليق على موضوع النذر
وبمناسبة الإشارة إلى وفاء الحجاج بنذورهم في الآية الأخيرة من هذه الآيات نقول: إن النذر عهد يقطعه الإنسان على نفسه بتقديم قربان ما للمعبود ،أو فعل فعل ما يظن أنه يرضى به المعبود تقرّبا إليه واسترضاء له ورغبة في قضاء مطلب من دفع شر وضر وخطر أو جلب خير ونفع ،أو تعبيرا عن الشكر إذا تحقق له مثل هذا الطلب .وقد اعتاد البشر ذلك منذ أقدم الأزمنة وعلى اختلاف بيئاتهم وعقائدهم .والآية التي نحن في صددها تدلّ على أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره لم يخرجوا عن ذلك .وفي الكتب العربية روايات كثيرة تفيد هذا بالنسبة للعرب في غير بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كما كان شأن سائر البشر .وليست هذه الآية أولى الآيات التي ذكر فيها النذر ،ففي سورة مريم آية فيها حكاية قول عيسى ( عليه السلام ) لأمه عقب ولادته وحينما خافت من عاقبة هذه الولادة وهي{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً{26}} .وقد رأينا أن التعليق على هذا الموضوع في مناسبة آية سورة الحج أكثر ملاءمة ؛لأن الآية قد تفيد أنها بسبيل حكاية ما كان يفعله العرب ثم المسلمون بعد البعثة من وفاء نذورهم .
وفي القرآن آيات أخرى منها ما هو حكاية عن أم مريم قبل الإسلام وهي آية سورة آل عمران هذه:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{35}} وفي هذه الآية ،كما في آية مريم بيان لمدى النذر في نطاق ما قلناه .ومنها ما فيه ثناء على الأبرار الذين يوفون بالنذر .ويمكن أن يكون شاملا للمؤمنين المخلصين قبل البعثة النبوية وبعدها ،وهي آية سورة الإنسان هذه{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً{7}} ،ومنها ما ينطوي فيه إقرار للنذر في الإسلام وإيجاب للوفاء به ووعد بالثواب عليه ،وهي آية سورة البقرة هذه:{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{270}} .
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في النذر وردت في كتب الأحاديث الصحيحة{[1388]} ،فيها دلالة على شيوع النذر عند العرب ،وتشريع لما سكت عنه القرآن في موضوعه ،ولا يجزئ إيراد بعضها لأن فيها صورا متنوعة وتشريعات وتلقينات متنوعة تبعا لها فرأينا إيرادها كلها على كثرتها:
1- عن ابن عمر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر ،وقال: إنه لا يردّ شيئا ولكنه يُستخرج به من البخيل » .
2- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرّب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدّره له ،ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج » .روى الحديثين البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي .
3- عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ،ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه » رواه الخمسة إلا مسلما .
4- عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ،لا أدري ذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السِّمن » رواه البخاري والنسائي .
5- جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال: يا رسول الله: «إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ،قال: صلّ ههنا ثم أعاد عليه فقال: صلّ ههنا ثم أعاد عليه فقال: شأنك إذا ،وزاد في رواية والذي بعث محمدا بالحق لو صلّيت ههنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس » .رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه .
6- وأتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّف قال: أوفي بنذرك .قالت: إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا قال: لصنم قالت: لا ،قال: لوثن قالت: لا ،قال أوفي بنذرك .رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح .
7- عن ابن عباس قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله في نذر كان على أمه توفيت قبل قضائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها » رواه الخمسة .
8- وعنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أختي نذرت أن تحجّ وقد ماتت فقال النبي: لو كان عليها دين أكنت قاضيه ،قال: نعم ،قال: فاقض الله فهو أحق بالقضاء » .رواه البخاري والنسائي .
9- وعنه أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجّاها الله أن تصوم شهرا فنجّاها الله ،فلم تصم حتى ماتت ،فجاءت ابنتها أو أختها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها .رواه أبو داود والنسائي .
10- وعنه «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فليتكلّم وليستظل وليقعد وليتم صومه .رواه الخمسة .
11- عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك شيخا يمشي بين ابنيه يتوكّأ عليهما فسأل ما شأنه قال ابنها: يا رسول الله كان عليه نذر المشي إلى بيت الله فقال: اركب أيها الشيخ فإن الله غني عنك وعن نذرك .رواه مسلم وأبو داود والترمذي .
12- عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك .رواه أبو داود والنسائي .
13- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نذر نذرا لم يسمّه فكفّارته كفّارة يمين ،ومن نذر نذرا في معصية فكفّارته كفارة يمين ،ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفّارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به .رواه أبو داود .
14- عن كعب بن مالك قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك .رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وفي رواية أنه قال له يجزي عنك الثلث{[1389]} .
15- عن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فاعتكف ليلة .رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود{[1390]} .وقد روي أن امرأة بدوية جاءت في صدر الإسلام إلى المدينة تذكر أنها نذرت نحر ابنها عند الكعبة إن هي فعلت أمرا ففعلته وتستفتي في وفاء نذرها فقيل لها: إن الله قد حرّم ذلك وإنّ عليها أن تقدّم فدية كما فعل عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه وسلم{[1391]} .
وفي كل حديث من الأحاديث النبوية كما قلنا تشريع وتلقين وحكمة ،ولا تعارض فيها .فلا ينبغي أن يعتقد المسلم أن للنذر تأثيرا في ما يصيبه وما لا يصيبه .ومع ذلك فإذا نذر المسلم أن يؤدي لله عبادة أو يفعل خيرا إذا تحقق له مطلب أو أراد أن يشكر الله على تحقيق مطلب له أو أراد أن يتقرّب إلى الله فهو عهد يجب الوفاء به على أن لا يكون في معصية أو فيه مشقة وعناء وتزمّت وغرابة .