وقال تعالى:
{ ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق 29} .
التفث:الأوساخ والأدوان التي تكونت بسبب المنع من الاستحمام ، وحلق الشعر ، والعانة والإبط ، مما يوجبه الإحرام ، ويستمر به الشخص محرما ، لا يتناول شيئا مما حرمه الله تعالى ، وذلك ليعيش عيشة الفقراء ، فيحس بآلام الفقراء ، وبؤس المحرومين من زينة الدنيا ، وليكون الناس على سواء أمام الله تعالى ، وليجيئوا إلى ضيافة الرحمن ، كما ولدتهم أمهاتهم ، ويخرجوا من الحج ، كما ولدتهم أمهاتهم ، وقضاء التفث يرمز إليه بحلق الرأس ، أو التقصير والاكتفاء بقدر من قص الشعر ، وتقليم الأظفار الذي كان ممنوعا بالتحريم .
والتعبير ب{ ثم} هنا لإفادة التفاوت بين حال المنع بالإحرام ، وحال التحلل منه ثوبا مكرما ، وحين ذلك يكون نحر الهدى لمن وجب عليه الهدى .
{ وليوفوا نذورهم} أمر بالوفاء بالنذور ووقته هو بعد التحلل من إحرام الحج ، لأن الوفاء بالنذر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله ، فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه{[1526]}"، وقد قال الفقهاء:إن النذر يجب الوفاء به بشرط ألا يكون معصية وأن يكون طاعة في ذاته ، وأن يكون من جنسه ، وكان الوفاء بالنذر بعد التحليل من الإحرام ، لكيلا تختلط عبادتان ، وليكون إحرام الحج خالصا للحج ، ثم قال تعالى:{ وليطوفوا بالبيت العتيق} وشدد سبحانه في الطواف بصيغة الافتعال ، تشديدا في الوجوب ، لأن صيغة الافتعال تفيد التشديد في الفعل ، وإن هذا الطواف الذي يكون بعد النحر والوقوف بعرفة والمشعر الحرام هو الركن ، وهو ما يسمى بطواف الزيارة ، و"البيت"هو المسجد الحرام ، وذكره مجرد إشعار بشرفه ، ولأنه معرف من غير تعريف ، ووصف بالعتيق ، "العتيق"معناه القديم ، ومعناه المعتق من التعدي على حرماته ، فهو أول بيت وضع للناس ، كما قال تعالى:{ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا . . . 96}( آل عمران ) ، وهو معتق من الاعتداء عليه من عدو مهاجم ، وبذلك يتبين الإثم الكبير الذي رمى به الطاغية الأثيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهذا إلحاد في البيت ، ولا يبرره أي مبرر ، ولكن مع إثم الحجاج قد أعاد الله بيته على يده الهادمة ، فكان معتقا أيضا .