وكلمة{كتاب} ترد هنا لأول مرة ،والأصل في معناها الشيء المكتوب ،وقد أطلقت في القرآن على القرآن وعلى الكتب المنزلة كما أطلقت على أعمال الناس وعلى علم الله أيضا ،ومن أمثلة إطلاقها على القرآن الآية التي نحن في صددها ،ومن أمثلة إطلاقها على الكتب المنزلة آية سورة المائدة هذه:{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ..} [ 48] ومن أمثلة إطلاقها على أعمال الناس آية سورة الانشقاق هذه:{فأما من أوتي كتابه بيمينه7 فسوف يحاسب حسابا يسيرا8} وآية سورة الكهف هذه:{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد49} ومن أمثلة إطلاقها على علم الله آية سورة الروم هذه:{وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون56} .
وبما أن القرآن لم يكن تاما حينما نزلت هذه الآية التي عنت كلمة الكتاب فيها القرآن فيمكن أن يقال: إن الكلمة تطلق على جميع القرآن كما تطلق على جزء منه ،وإن شأنها في هذا شأن كلمة القرآن تماما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل ،بما في ذلك دلالتها في الأصل ،مثل القرآن على القسم الذي يحتوي مبادئ الدعوة وأسسها الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية .ومن الأدلة على ذلك الآية التي نحن في صددها وآيات سورة العنكبوت هذه:{وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين50 أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون51} وآيات سورة البقرة هذه:{الم1 ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين2} ثم صار يطلق على جميع الآيات القرآنية على ما تفيده آية سورة آل عمران هذه:{هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [ 7] .
ومع أن كلمتي القرآن والكتاب قد وردتا في القرآن مترادفتي المعنى في تسمية كتاب الله المجيد أو التنويه به ،فإنهما اجتمعتا في آية واحدة أكثر من مرة أيضا ،كما جاء ذلك في آية سورة الحجر هذه:{الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين1} وفي آية سورة النمل هذه:{طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين1} .مما يمكن أن يسوغ القول: إنهما لم يردا في الآيتين على معنى الترادف التام .ولعله قصد بإيرادهما معا في آية واحدة الإشارة إلى معناهما الأصليين"المقروء المكتوب "ولما كانت الآيات والفصول القرآنية توحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيا ،فيتلوها على الناس شفويا ويأمر بتدوينها في الوقت نفسه ،فإن الإشارة إليها بتعبير الكتاب يمكن أن تكون على اعتبار ما سوف يكون من أمرها بعد تبليغها قراءة وشفويا .واستعمال هذا التعبير ينطوي في ما هو المتبادر لنا على قرينة قوية بأن آيات القرآن وفصوله كانت تكتب على أثر وحيها .
تعليق على آية
{كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}
وفحوى الآية [ 29] التي احتوت كلمة [ كتاب] جدير بالتنويه .فالله سبحانه وتعالى أنزل كتابه المبارك على نبيه صلى الله عليه وسلم ليتدبر السامعون آياته وليتذكر به أولو العقول الواعية ويهتدوا .وينطوي في هذا دعوة إلى كل إنسان من كل جنس ولون ودين وطبقة من مسلمين وغير مسلمين ،وتقرير بإمكان كل إنسان أن يتدبر آياته ،وإيجاب على كل إنسان أيضا أن يفعل ذلك .
وهكذا يؤذن الله عز وجل الناس جميعا أنه إنما أنزل كتابه على نبيه ليتدبروا آياته ،مؤكدا أن أولي الألباب الذين يتدبرون آيات هذا الكتاب المبارك المحكمات اللاتي هن أم الكتاب ،تدبر الواعي الراغب في الحق العازف عن المكابرة والعناد ،البريء عن الزيغ ،المتجنب اتباع المتشابهات ابتغاء الفتنة سوف يتذكرون ويهتدون منه إلى الله عز وجل ،فتتحرر نفوسهم ،ويجدون فيه أفضل وأكمل نظام إنساني واجتماعي ضامن لسعادة الدارين .وفي هذا ما فيه من روعة وجلال .
تعليق على سلسلة قصص الأنبياء وهدفها:
وهذه الآيات حلقة من سلسلة طويلة ذكر فيها عدا داود عليه السلام أنبياء الله سليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذو الكفل عليهم السلام دون أقوامهم .وقد ذكر بعضهم باقتضاب وبعضهم بشيء من التفصيل حسب ما اقتضته حكمة التنزيل .
والآية الأولى تصل بين هذه الآيات والآيات السابقة لها سياقا وموضوعا .فصور التكذيب واللجاج التي احتوتها الآيات السابقة من شأنها أن تحدث في نفس النبي صلى الله عليه وسلم مرارة وحزنا ،فأعقبتها أولا: إشارة خاطفة في معرض الإنذار والتذكير إلى الأقوام الذين كذبوا أنبياءهم ،ثم جاءت هذه السلسلة لتسلي النبي صلى الله عليه وسلم وتخفف عنه ما يجده ،فتحثه على الصبر على ما يقول الكفار من جهة ،وتخبره مذكرة أنه إذا وقف هؤلاء من دعوته هذا الموقف المرّ المحزن ،فإن هناك أناسا أخلصوا لله كل الإخلاص وأنابوا إليه كل الإنابة في حالات سرائهم وضرائهم وقوتهم وضعفهم .ومنهم من وصل إلى ذرى القوة والملك كداود وسليمان فلم تبطرهم القوة ،ومنهم من وصل إلى أشد حالات البلاء ،كأيوب فلم يزغه البلاء .وقد صبروا على امتحان الله الصبر الجميل وكانوا في كل امتحان يبادرون إليه نادمين منيبين مستغفرين فاستحقوا برّه ورحمته وتكريمه والمزيد من نعمه ومنحه .وهي تدعوه إلى الصبر على ما يلقاه من عناد ومناوأة وتكذيب والتأسي بمن سبقه من أنبياء الله وتبشيره بما سوف يكون له من برّ الله ورحمته وتكريمه والمزيد من نعمه ومنحه مثل ما كان لهم .وقد انتهت الحلقة الأولى بالتنويه بالقرآن الكريم المبارك وكون الله قد أنزله على نبيه ليتدبر السامعون آياته ويتذكر أولوا الألباب منهم فيهتدوا وينيبوا .
وهكذا يتسق هدف القصص القرآنية الذي نبهنا عليه سواء أكان قصص أنبياء مع أقوامهم أم قصص أنبياء لحدتهم ،وهو التدعيم والعظة والعبرة والدعوة إلى التأسي .وقد جاءت هذه السلسلة بعد حكاية ما كان من مواقف الكفار والمكذبين وعنادهم .وهو ما جرى عليه النظم القرآني على ما ذكرناه في مناسبات سابقة .
وداود يذكر لأول مرة هنا .وقد تكرر ذكره بعد ذلك ،كما أن سيرته واردة بشيء من الإسهاب في بعض أسفار العهد القديم .وهنا سفر خاص منها يعرف بالمزامير ،فيه استغفار وتمجيد وتقديس وابتهالات لله يعزى أكثر فصوله إلى داود .والراجح أنها هي الزبور الذي اقترن في القرآن باسم داود ،وذكر أن الله آتاه إياه كما جاء في آيات قرآنية عديدة منها آية النساء [ 163] التي فيها هذه الجملة:{وآتينا داود زبورا163} .
أما ملخص ما ورد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم من سيرته فهو أن جدته لأبيه مؤابية ،وأنه كان بارعا في الضرب على الكنارة ،وأنه بارز جالوت قائد الفلسطينيين وقتله ،وصار من رجال الملك طالوت ،وأن هذا خاف منه على ملكه وصار يطارده ويتربص به ليقتله ،فالتجأ إلى الفلسطينيين وكان يحارب معهم .ولما مات طالوت بايعه فريق من بني إسرائيل ملكا في حبرون ،ثم صار ملكا على جميع بني إسرائيل واتخذ بيت المقدس التي كانت تسمى أورشليم ،وكانت من قبل تسمى [ يبوس] عاصمة له ونشبت بينه وبين الفلسطينيين الذين كان لهم ممالك عديدة في جنوب فلسطين وبينه وبين العمونيين والمؤابيين في شرق الأردن وبينه وبين الآرميين في سورية حروب انتصر فيها ،وصار سلطانه واسعا قويا في الشطر الأول من عهده .وتمرد عليه ابن له كما تمرد عليه متمردون آخرون فأدى ذلك إلى اضطراب حالة ملكه وانكماشه في الشطر الثاني من عهده .
تعليق على قصة الخصم الذي تقاضى أمام داود وتلقيناتها:
وقصة صاحب الغنم الكثيرة الذي طمع في النعجة الوحيدة التي يملكها فقير ،والتي وردت الإشارة إليها في الآيات ،قد وردت في سفر صموئيل الثاني [ الطبعة البروتستانية] وخلاصة ما جاء في هذا السفر: أن داود عليه السلام رأى زوجة أحد رجال جيشه واسمه أوريا عارية على سطح بيتها المجاور لبيته ،فأعجبته فأحضرها واضطجع معها ،وكان زوجها في جبهة حربية ،فلما عاد وشعر بذلك امتنع عنها ،فأرسله داود إلى الجبهة ثانية ،وأوعز للقائد بأن يجعله في وجه الموت حتى يقتل فلما قتل ،وأرسل القائد يخبر داود بذلك تزوج بامرأته ،وقد ذكر السفر أن الله أرسل نبيا اسمه ناتان إلى داود فحكى له قصة طمع الرجل الغني الكثير البقر والغنم في نعجة الفقير ،فقال داود: إن هذا الرجل يستحق الموت فقال له ناتان: أنت هو هذا الرجل ؛لأنك قتلت أوريا وتزوجت بامرأته وعاتبه عتابا شديدا بلسان الله على خطيئته البشعة برغم ما يسرّه له وأغدقه عليه من نعمه الكثيرة وأنذره بإثارة الشر من بيته ودفع أزواجه إلى غيره فيدخل عليهن جهارا في عين الشمس وعيون بني إسرائيل فقال داود: قد خطئت للرب ،فقال له ناتان: إن الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك فلا تموت أنت ،ولكن الابن الذي يولد لك يموت .
والآيات وإن كانت خلت من هذه التفاصيل ،فإن فيها إشارات خاطفة متسقة معها ؛حيث ذكرت أن داود قد أدرك أن الله امتحنه بسبب خطيئة له ،فاستغفر ربه وخرّ راكعا وأناب فغفر الله له .
والمرجح أن من سامعي القرآن العرب ،من كان يعرف قصص داود كليا أو جزئيا ؛لأن أسفار العهد القديم التي وردت فيها كانت متداولة بين أيدي الكتابين ،وبخاصة اليهود الذين كان منهم جالية كبيرة في الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في مناسبات سابقة ،ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات بيانات كثيرة عن داود وملكه وخطيئته وتوبته في بعضها تطابق مع ما جاء في الأسفار وفي بعضها مباينة له وفي بعضها إغراب عجيب ومما يؤيد على كل حال ما قلناه من معرفة أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قصص داود ،وما كان يضيفه اليهود إليها من حواش .وربما كان عندهم أسفار وقراطيس أخرى فيها تفصيلات وزوائد لم ترد في الأسفار المتداولة اليوم .
وننبه على أمر هام بالنسبة للأسلوب القرآني في قصص الأنبياء .فإنه جرى بصورة عامة على ذكر الأنبياء السابقين بأسلوب تكريمي وتنويهي وعتابي ،ولم يحتو ما احتوته بعض أسفار العهد القديم عن بعض الأنبياء المذكورين فيها مثلا من تهم وقصص فاحشة .وعلى المسلم أن يحتذي هذا الحذو ولا يتجاوز نطاقه ؛لأن الإيمان بأنبياء الله واحترامهم وتنزيههم ركن من أركان العقيدة الإسلامية على ما جاء في آيات كثيرة .منها آية سورة البقرة هذه:{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين ..} [ 177] وقد وصف الأنبياء المذكورون في القرآن ،ومنهم طائفة أخرى ذكروا في سورة [ ص] التي نحن في صدد تفسيرها بوصف عباد الله والصالحين والصابرين والأخيار وذوي الزلفى عند الله .ويجب على المسلم أن يذكر إلى هذا أن الأسفار المتداولة اليوم قد كتبت بأقلام بشرية وبعد الأحداث المذكورة فيها بمدة ما وأن من المحتمل كثيرا بل من المؤكد أنها اختلطت بالخيال والمبالغة وتعرضت للتحريف والتشويه المقصود وغير المقصود .وعليه أن يلاحظ حقيقة أخرى تبدو من الإمعان في قصص الأنبياء ،وهي أن أسلوب هذه القصص في القرآن ليس أسلوب سرد للأحداث وتدوين لها كما هو شأنها في الأسفار المتداولة بل توخى فيه الوعظ والتذكير والتدعيم وفاقا لهدف القصص القرآني بصورة عامة .وبالنسبة لأسلوب قصة الخصم التي نحن في صددها يلحظ بالإضافة إلى قصد بيان ما كان من إنابة داود عليه السلام ذي الملك والسلطان لله تعالى واستغفاره عن خطيئة ارتكبها ليكون في ذلك العبرة والتسلية ،فقد انطوى فيه عظات بالغات ؛حيث قام موضوع الخصومة فيه على الشكوى من طمع الأغنياء وأصحاب الحول والطول بما عند الفقراء والضعفاء ،وحيث احتوى تصويرا قويا لبشاعة الطمع وتسفيها لأصحابه وتنفيرا منه ووصفه بالظلم والبغي وتنويها بالذين يجانبونه ويلتزمون حدودهم ،ويحترمون حدود الآخرين وحقوقهم أيضا مما فيه تلقين عام مستمر المدى .وفيه بالإضافة إلى ذلك عظة وتلقين للحكام وأصحاب السلطان بخاصة على ما هو المتبادر ؛حيث توجب أن يكونوا القدوة الصالحة للناس ،وأن ينتبهوا لكل هفوة قد تبدر منهم ليبادروا إلى إصلاحها والرجوع عنها والوقوف عند حدود الله ومراعاة الحق والعدل والإنصاف بكل دقة .
وفي استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من البغي لفتة تنويهية للمؤمنين الصالحين .فإيمانهم وسلوكهم المستقيم المستمد منه يزعهم عن البغي والظلم وتجاوز حدود الله .