قوله تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاٌّلْبَابِ} .
قوله تعالى: كتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب ،وقد ذكر جل وعلا ،في هذه الآية الكريمة ،أنه أنزل هذا الكتاب ،معظماً نفسه جل وعلا ،بصيغة الجمع ،وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله ،أن يتدبر الناس آياته ،أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها ،حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى ،وأن يتذكر أولوا الألباب ،أي يتعظ أصحاب العقول السليمة ،من شوائب الاختلال .
وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحاً في آيات أخر .
أما كونه جل وعلا ،هو الذي أنزل هذا القرآن ،فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [ القدر: 1] وقوله تعالى:{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [ الدخان: 3] وقوله تعالى:{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [ آل عمران: 7] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وأما كون هذا الكتاب مباركاً ،فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى:{وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} [ الأنعام: 92] الآية .وقوله تعالى:{وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [ الأنعام: 155] .والمبارك كثير البركات ،من خير الدنيا والآخرة .
ونرجو الله القريب المجيب ،إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك ،أن يجعلنا مباركين أينما كنا ،وأن يبارك لنا وعلينا ،وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة ،وأن يعم جميع إخواننا المسلمين ،الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات ،في الدنيا والآخرة ،إنه قريب مجيب .
وأما كون تدبر آياته ،من حكم إنزاله: فقد أشار إليه في بعض الآيات ،بالتحضيض على تدبره ،وتوبيخ من لم يتدبره ،كقوله تعالى{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [ محمد صلى الله عليه وسلم: 24] .وقوله تعالى:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} وقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الأولين} [ المؤمنون: 68] .
وأما كون تذكر أولي الألباب ،من حكم إنزاله ،فقد ذكره في غير هذا الموضع ،مقترناً ببعض الحكم الأخرى ،التي لم تذكر في آية ص هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم{هذا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [ إبراهيم: 52] فقد بين في هذه الآية الكريمة ،أن تذكر أولي الألباب ،من حكم إنزاله مبيناً منها حكمتين أخريين ،من حكم إنزاله ،وهما إنذار الناس به ،وتحقيق معنى لا إله إلا الله ،وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب ،من حكم إنزاله ،ذكره في قوله تعالى:{المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [ الأعراف: 1 -2] لأن اللام في قوله لتنذر ،متعلقة بقوله: أنزل ،والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير ،والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولوا الألباب .
وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله:{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [ الفرقان: 1] .
وقوله تعالى:{وَأُوحِىَ إِلَىَّ هذا الْقُرْءَانُ لأنذركم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [ الأنعام: 19] .وقوله تعالى:{تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ} [ يس: 5-6] .وقوله تعالى:{لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} [ يس: 70] .
وذكر في آيات أخر ،أن من حكم إنزاله ،الإنذار والتبشير معاً ،كقوله تعالى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} [ مريم: 97] .وقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [ الكهف: 1 – 2] الآية .
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا ،وذلك قوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [ النحل: 44] .
وقد قدمنا مراراً كون لعل من حروف التعليل ،وذكر حكمة التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة ،في قوله تعالى:{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [ النحل: 64] .
وبين أن من حكم إنزاله ،تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [ النحل: 102] .
وبين أن من حكم إنزاله ،إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،أن يحكم بين الناس بما أراه الله ،وذلك في قوله تعالى:{إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} [ النساء: 105] الآية .
والظاهر أن معنى قوله:{بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ} أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم ،بدليل قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} [ الشورى: 52] .وقوله تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [ يوسف: 3] .
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى:{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [ إبراهيم: 1] الآية .
وبين أن من حِكَم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى:{طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [ طه: 1 -3] أي ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى .
وهذا القصر على التذكرة إضافي ،وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} [ النحل: 64] الآية ،بدليل الحِكَم الأخرى التي ذكرناها .
وبين أن من حكم إنزاله قرآناً عربياً وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي الناس الله ،أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكراً ،أي موعظة وتذكراً ،يهديهم إلى الحق ،وذلك في قوله تعالى:{وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [ طه: 113] والعلم عند الله تعالى .