عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم ،أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه ،وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع ،وحجاجاً هو لشبهاتهم مقلع ،وأنه إن حَرَم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون .وفي ذلك إدماجُ الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين .وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر:{ مَا خَلَقَ الله ذلك إلاَّ بالحَقِّ يُفَصِّلُ الأَياتِ لِقَوممٍ يَعْلَمُون} في أول سورة[ يونس: 5] .
والجملة استئناف معتَرضضٍ وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورة{ والقُرءَانِ ذي الذِكرِ}[ ص: 1] إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالى:{ هذا ذكر}[ ص: 49] .
فقوله:{ كِتابٌ} يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ،والتقدير: هذا كتاب ،وجملة{ أنزلناهُ} صفة{ كِتابٌ .} ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة{ أنزلناهُ} صفة{ كِتاب} و{ مُبارَكٌ} خبراً عن{ كِتابٌ} .
وتنكير كِتابٌ للتعظيم ،لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بجملة{ أنزلناهُ} و{ مُبارَكٌ} هو الخبر .ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغاً للابتداء وتجعل جملة{ أنزلناهُ} خبراً أول و{ مُبارَكٌ} خبراً ثانياً و{ لِيدَّبَّرُوا} متعلق ب{ أنزلناهُ} ولكن لا يجعل{ كِتابٌ} خبر مبتدأ محذوف وتقدره: هذا كتاب ،إذ ليس هذا بمحَزّ كبير من البلاغة .
والمبارك: المُنبَثّة فيه البركة وهي الخير الكثير ،وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها: إمّا مرشدة إلى خير ،وَإمّا صارفة عن شرّ وفساد ،وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك .
والتدبر: التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني ،وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبراً انكشفت له معان لم تكن بادية له بادىء النظر .وأقربُ مثل للتدبر هنا هو ما مر آنفاً من معاني قوله تعالى:{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} إلى قوله:{ أم نجعل المتقين كالفجار}[ ص: 27 - 28] ،وتقدم عند قوله تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن} في سورة[ النساء: 82] .
وقرأ الجمهور:{ ليَدَّبَّرُوَا} بياء الغيبة وتشديد الدال .وأصل « يدبروا » يتدبروا ،فقلبت التاء دالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى الإِدغام لتخفيفه وهو صيغة تكلف مشتقة من فعل: دَبَرَ بوزن ضرب ،إذا تبع ،فتدبَّره بمنزلة تتبَّعه ،ومعناه: أنه يتعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يَدْبر ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة ،وتقدم عند قوله تعالى:{ أفلم يدبروا القول} في سورة[ المؤمنين: 68] .
وقرأ أبو جعفر{ لتَدَبروا} بتاء الخطاب وتخفيف الدال وأصلها: لتتدبروا فحذفت إحدى التاءين اختصاراً ،والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين .
والتذكُّر: استحضار الذهن ما كان يعلمه وهو صادق باستحضار ما هو منسي وباستحضار ما الشأن أن لا يُغفل عنه وهو ما يهمّ العلم به ،فجُعل القرآن للناس ليتدبروا معانيه ويكشفوا عن غوامضه بقدر الطاقة فإنهم على تعاقب طبقات العلماء به لا يصلون إلى نهاية من مكنونه ولتذكرهم الآية بنظيرها وما يقاربها ،وليتذكروا ما هو موعظة لهم وموقظ من غفلاتهم .
وضمير « يدبروا » على قراءة الجمهور عائد إلى{ أولوا الألباب} على طريقة الإِضمار للفعل المهمل عن العمل في التنازع ،والتقدير: ليدَبَّر أولو الألباب آياته ويتذكروا ،وأما على قراءة أبي جعفر فإسناد « يتذكر » إلى{ أُولُوا الألبابِ} اكتفاء عن وصف المتدبرين بأنهم أولو الألباب لأن التدبر مُفْضضٍ إلى التذكر .والتذكر من آثار التدبر فوصف فاعل أحد الفعلين يُغني عن وصف فاعل الفعل الآخر .
و{ أولوا الألباب}: أهل العقول وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول ،وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ،فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا ،ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقاً كان عليه أن يرعاه ،والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر .