هذه الآيات حلقة ثانية من السلسلة ،وهي متصلة بالسياق كما هو واضح ويتجلى فيها قصد التنويه بإخلاص سليمان وإنابته إلى الله وتوبته وامتحان الله له على عظم ملكه وسلطانه .وما كان من مدّ الله له بالقوة وشموله إياه بالعناية والتكريم بسبب ذلك .وكل هذا متصل بالهدف الذي استهدفته السلسلة على ما نبهنا عليه في مطلعها .وليس في عبارة الآيات غموض يحتاج إلى أداء آخر .
وسليمان يذكر هنا لأول مرة .ثم يتكرر ذكره مرارا .وسيرته مسهبة في سفري الملوك الأول والثاني [ الطبعة البروتستانتية] أو الثالث والرابع [ الطبعة الكاثوليكية] وفي سفر أخبار الأيام الثاني من أسفار العهد القديم .وهناك سفران من هذه الأسفار منسوبان إلى سليمان ،اسم أولهما الأمثال ،وثانيهما نشيد الأناشيد ،فيهما أمثال وحكم ومواعظ بليغة .
أما ما جاء في الآيات عنه فقد جاء مقتضبا ،وبأسلوب غير أسلوب أسفار العهد القديم ،من حيث إنه لم يكن لسيرته ذاتها ،وإنما كان للتدعيم والتنويه والعظة والعبرة والتسلية .
وفي سور النمل وسبأ والأنبياء آيات أخرى تضمنت شيئا غير قليل من أخبار سليمان عليه السلام أيضا ،فيها بعض ما جاء في هذه الآيات مع زيادة وتفصيل ،وجاءت بنفس الأسلوب المستهدف للعظة والعبرة والتنويه والتدعيم كذلك ،على ما سوف نشرحه في مناسباته .
وفي أسفار العهد القديم المذكورة آنفا التي تروي سيرة سليمان أشياء كثيرة عنه ،تلخص بأنه كان يحكم معظم أرض فلسطين وبعض أنحاء شرق الأردن ،وأن السلم كان مخيما على بلاده ،وأنه كان ملكا عظيما ذا أموال طائلة ومعادن وسفن وخيل ،وأنه منح حكمة فاقت حكمة جميع بني المشرق ومصر ،وتكلم بثلاثة آلاف مثل ،وعن الأشجار والبهائم والطير والدبيب والسمك ،وأن ملكة سبأ جاءت لزيارته واستماع حكمه وقدمت له هدايا ثمينة من عطور وذهب وحجارة كريمة ،وأن ملوكا آخرين منهم ملوك من العرب هادوه بهدايا ثمينة .وأنه أنشأ في أورشليم معبدا فخما زينه بصفائح الذهب وثمين الخشب وضخم الأعمدة ،وجعل أوانيه من الذهب ،كما أنشأ قصرا لسكناه ومباشرة الحكم والقضاء فيه .وكان موضع وحي الله وتكريمه وتجلياته .وإلى هذا فقد ذكرت الأسفار أنه استكثر من النساء حتى بلغ عدد زوجاته ومحظياته ألفا ،وتزوج من بنت فرعون ومن نساء صيدونيات وعمونيات وأدوميات وحثيات فأملن قلبه إلى آلهتهن مخالفا لأوامر الله ،وبنى لهذه الآلهة مذابح وقرب لها قرابين وعمل الشر في عين الرب فكان ذلك سببا لنقمة الله عليه ووعيده بتمزيق ملكه وإعطائه لعبيده .وقد خرج عليه ثائران وفر أحدهما إلى مصر ،ثم عاد بعد موته وقاد حركة ضد ابنه أدت إلى انقسام مملكته .
وليس في الأسفار ما ورد في آيات هذه السور والسور الثلاث الأخرى من تسخير الجن والريح لسليمان ولا أعمال الجن البنائية والغوصية ،ولا تقييده بعضهم بالأصفاد ولا معرفته لغة الطير واحتشاده معه ،ولا قصة الهدهد الذي طار إلى سبأ وأتى بخبر ملكتها ،ولا قصة الصافنات الجياد ولا قصة الجسد الذي ألقاه الله على كرسي سليمان .
واتساقا على ما نبهنا عليه في سياق فصل داود عليه السلام السابق نقول: إن من واجب المسلم الوقوف موقف التحفظ إزاء ما ورد في الأسفار عن انحرافات سليمان عليه السلام .وكل ما يمكن أن يقال: إن الآيات تفيد أنه صدر من سليمان خطأ ما استحق أن يبتليه الله ببلاء ما عليه ،وأنه أدرك ذلك فأناب إلى ربه فغفر الله له لأنه كان عنده ذا حظوة وقبول .والأسلوب الذي جاءت عليه قصة سليمان وأخباره ليس أسلوب سرد وتسجيل كما هو الشأن في أسفار العهد القديم وإنما هو أسلوب وعظ وعبرة .فهو عبد الله وهو يعترف بهذه العبودية وينيب إلى الله ويستغفره ويلتمس منه المطالب ويكون موضع ابتلائه وفتنته مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية القوية .
وقد يقول المغرضون الأغيار بسبب عدم ورود أخبار تسخير الجن والريح وغير ذلك مما ورد في السور الأخرى في الأسفار المتداولة: إن كل هذا اختراع بقطع النظر عن كون ذلك داخلا في نطاق قدرة الله تعالى فإننا نقول من قبيل المساجلة: إنه ليس هناك ضرورة فنية للاختراع ،وإن السياق القرآني يبقى مستقيما بدون الزوائد لو لم تكن مستندة إلى أصل .ونحن نعتقد أنها واردة في أسفار وقراطيس كانت متداولة بأيدي اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وضاعت ولم تصل إلينا .وهدف القصة إنما يتحقق بقوة إذا كان السامعون يعرفونها .وما كان يتداوله اليهود كان يتسرب إلى العرب .ولقد جاء في الإصحاح التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني المتداول اليوم هذه الجملة: [ وبقية أخبار سليمان الأولى والأخيرة مكتوبة في أسفار ناتان النبي ونبوة أحيا الشيلوتي وعدو الرائي] وورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول- وهو سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية- هذه الجملة: [ وبقية أخبار سليمان وجميع ما عمل ووصف حكمته مكتوبة في سفر أخبار سليمان] .وجميع هذه الأسفار مفقودة لم تصل إلينا .ولقد كان القرآن يتلى علنا ويسمعه أهل الكتاب ومنهم إسرائيليون .وقد سجل القرآن المكي شهادات عديدة للكتابيين بصدق الوحي الرباني بالقرآن وصدق ما احتواه وإيمانهم به على أوردناه في تعليقنا على أهداف القصص في سياق سورة القلم .ولا يمكن أن يكون ذلك إلا أنهم كانوا عرفوا أن ما جاء في القرآن من قصص وغير قصص هو حق ومطابق لما كان عندهم .
ولقد روى المفسرون في سياق قصص سليمان وأخباره في هذه السورة والسور الأخرى المذكورة آنفا بيانات كثيرة عن جن سليمان وجنوده وعلمه وحكمته وسلطانه وبساط ريحه والصافنات والجسد والهدهد وملكة سبأ وعرشها الخ ... الخ مروية عن علماء التابعين الذين كان بينهم بعض مسلمي اليهود وأبناؤهم وبعض مسلمي الجاليات الكتابية والأجنبية الأخرى وأبناؤهم مثل كعب الأحبار والقرظي والسدي وأبناء منبه ؛حيث يفيد هذا أن تلك القصص مما كان متداولا مع زيادات كثيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته .وليس من مصدر لذلك قبل القرآن إلا الجاليات الكتابية واليهودية بخاصة .ومهما يكن من أمر فمن واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن من أخبار الأنبياء ومعجزاتهم ،وأن يؤمن بأن الله قادر على خرق العادة على أيديهم أو اختصاصهم بأمور خارقة .وإلى هذا فإن مما تجب ملاحظته كون الآيات القرآنية وهي تذكر ما كان يعرفه السامعون عن سليمان عليه السلام من ذلك إنما وردت لبيان عناية الله بمن يخلص له ثم بيان ما كان من إدراك سليمان لما بدر منه من خطأ ،وما تعرض له من فتنة وبلاء بسببه وإنابته إلى ربه مع ما وصل إليه من الملك والسلطان والسيطرة على بعض القوى الكونية بسبيل العظة والتذكير والمثل والتدعيم كما قلنا آنفا .وهذا ما يجعلنا في الوقت نفسه نتوقف عن إيراد ما جاء في روايات المفسرين من بيانات زائدة عن ما جاء في القرآن ،قد لا يخلو كثير منها من غلو وخيال .ولا سيما ليس فيها ما هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المصدر الوحيد الوثيق باستثناء حديث رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قصة من قصص سليمان التي لم تذكر أيضا في الآيات ولا في الأسفار حيث روي عن أبي هريرة أنه قال: ( قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين ،كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه: قل إن شاء الله ،فلم يقل إن شاء الله ،فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل .والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ) .
ولقد روى هذا الحديث المفسر البغوي بطرقه عن أبي هريرة ورواه عنه البخاري أيضا على ما ذكره الذهبي{[1757]} وأورده البغوي والذهبي على اعتبار أن له صلة بالآيات:{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب34 قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب35} .ولسنا نرى صلى بين فحوى الحديث والآيات .
ولقد روى البغوي وابن كثير وغيرهما رواية طويلة في سياق هذه الآيات أيضا عن وهب بن منبه أحد رواة الأخبار التابعين مختلفة في الصيغ متفقة في المدى خلاصتها: أن سليمان صنع لأحدى زوجاته صنما على شكل أبيها فجازاه الله على ذلك بأن جعل شيطانا اسمه صخر على صورته ،وكان سليمان حينما يذهب لحاجته يسلم خاتمه لخادمة له ،فجاء الشيطان وأخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان وأخذ يتصرف بالملك كما يشاء ويطيعه الجميع .وعاد سليمان إلى الخادمة فأنكرته وأنكره الناس ولبث منكورا مقهورا حائرا أربعين يوما حتى أدرك خطيئته وكون ما جرى له عقوبة من الله ،فندم واستغفر الله وذلت نفسه فتاب الله عليه وجعل الشيطان يلقي بالخاتم في البحر ويطير والتقم الخاتم سمكة صادها صياد واشتراها منه سليمان ،ولما فتحها وجد الخاتم فسجد الله شاكرا وعاد إلى ملكه .وهذا تأويل الفتنة التي فتن الله بها سليمان والجسد الذي ألقاه على كرسيه .ونعتقد أن هذه القصة مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وأن مصدرها اليهود .والله تعالى أعلم .