2- تدهن: تلاين أو تصانع
/م5
تعليق على مفاوضات وعروض
زعماء قريش على النبي صلى الله عليه وسلم .
وآية{ودوا لو تدهن فيدهنون} ( القلم: 9 ){[2275]} صريحة بأنها تحكي رغبة بعض الزعماء في ملاينة النبي صلى الله عليه وسلم معهم ومجاراته لهم حتى يقابلوه بالمثل .وقد ذكر بعض المفسرين أنهم طلبوا منه ذكر آلهتهم بالخير أو السكوت عنها ،حتى يستمعوا إليه ويجاروه في بعض ما يطلب .ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن هذا لم يبق وحيدا .بل تكرر في ظروف عديدة في العهد المكي ،على ما أشارت إليه بعض الآيات وروته بعض الروايات ،مما فيه صورة خطيرة من صور السيرة النبوية في هذا العهد .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منذ البدء - وظل- شديد الحرص على هداية قومه شديد الحزن من انقباضهم عن دعوته وبخاصة الزعماء ،لأنهم يسدون الطريق أمام السواد الأعظم من العرب على ما ذكرناه قبل قليل .فكان بعض الزعماء يستغلون هذه العاطفة ،ويعرضون عليه مباشرة أو بواسطة عمه أبي طالب بعض العروض والاقتراحات ،بسبيل تبادل الملاينة والمسايرة .
ومن ذلك ما تضمنت الإشارة إليه آيات سورة الإسراء هذه:{وإن كَادُوا ليَفتنُونكَ عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا( 73 ) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( 74 )} ،وقد روى المفسرون{[2276]} في صددها روايات عديدة ،منها أن فريقا من زعماء قريش اقترحوا عليه السكوت عن شتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم ليحاسنوه ويسايروه .ومنها طلبوا منه الإبقاء على بعض تقاليدهم وطقوسهم مدة من الزمن ،ومنها أنهم طلبوا منه الإلمام بأصنامهم كما يفعل بالحجر الأسود ،ومنها السماح لهم بذلك .ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطر لباله أن يسايرهم بعض المسايرة ،فثبته الله تثبيتا ينطوي فيه التنبيه المنطوي في آيات سورة القلم ،والذي نوهنا به آنفا .
وفي سورة يونس هذه الآية:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ( 15 )} ،وقد روى المفسرون{[2277]} أنهم طلبوا منه قرآنا خاليا من الحملة عليهم وعلى شركائهم .
ولقد روى ابن هشام{[2278]} أن زعماء قريش جاءوا إلى أبي طالب متذمرين أكثر من مرة ،طالبين منه ردع ابن أخيه عن شتم آلهتهم وتسفيه عقولهم .ومما قالوه له في إحدى المرات وكان حاضراً في مجلسهم: إننا نحب أن يسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا .وفي إحدى المرات قال لعمه: أريد منهم أن يعطوني كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ،فقالوا له: نعم وأبيك وعشر كلمات ،قال: تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه .فصفقوا وقال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا .
وفي سورتي الأنعام والكهف آيات تلهم نصوصها وما رواه المفسرون في صددها{[2279]} أن الزعماء كانوا يقترحون عليه طرد الفقراء والمساكين من حوله ،إذا كان يريد منهم أن يجلسوا إليه ويستمعوا منه ويستجيبوا له ،ويتمجحون بهم لعدم استجابتهم لدعوته وهي هذه:
1-{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ( 52 ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( 53 )} ( الأنعام: 52-53 ) .
2- وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا( 28 )} ( الكهف: 28 ) .
وقد تضمنت الآيات تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لاقتراحات زعماء الكفار ،بإغداق عطفه واهتمامه على أصحابه الذين آمنوا به والتفوا حوله ،مهما كانت طبقتهم الاجتماعية ،لأنهم أظهروا من صدق الرغبة في الإيمان والاتجاه إلى الله وحده ما رفع شأنهم وقدرهم عند الله .وفي الآيات من التلقين الجليل ما هو ظاهر .
هذا ،وجنوح الزعماء إلى طلب المداهنة والملاينة من النبي صلى الله عليه وسلم ،ووعدهم بالمقابلة بالمثل منذ عهد مبكر ،واستمرارهم على ذلك يدل على أنهم لم يكونوا يجدون في أنفسهم من القوة ما يستطيعون به إرغامه على الكف عن دعوته ،والاعتدال في تنديداته وحملاته ،كما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لديه من الجرأة والقوة الروحية والاستغراق في الله ما يجعله غير مبال بما كان عليه الزعماء من قوة ومال وكثرة ،وما يجعله يظل يقذف بنذُر القرآن وحملاته في وجوههم ويقرع بها آذانهم منذ بدء الدعوة ،ويدل في الوقت نفسه على أن الزعماء يعرفون ذلك ،وفي هذا ما فيه من العظمة وبليغ الأسوة .
ولقد قلنا قبل: إن هذه الآيات لا بد أن تكون نزلت بعد طائفة من السور التي فيها مبادئ الدعوة من وحدانية الله تعالى ،وإيجاب اختصاصه وحده بالعبادة والدعاء ،وترك كل ما عداه ،والإيمان باليوم الآخر ،وإيجاب الأعمال والأخلاق الحسنة ،وتجنب الأعمال والأخلاق السيئة ،وعدم الاستغراق في حب المال واكتنازه ،وإيجاب البر بالمساكين والفقراء ،والإنفاق على سبل الخير المختلفة إلخ ..ومعنى أمر الله تعالى لرسوله بعدم إطاعتهم في ما يطلبونه من مسايرة مقابل وعدهم له بالمسايرة في بعض ما يدعو إليه ،أن المبادئ الأساسية للدعوة لا يصح في أي حال وظرف أن تكون محل مساومة وتمييع .وهذا الأمر قد تكرر على ما تفيده آيات سورة الإسراء ( 73- 74 ) التي أوردناها آنفا .
وفي هذا ما فيه روعة وتلقين جليل مستمر المدى .