( 1 ) يعدلون: هنا بمعنى يعملون أو يقضون .
{وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون( 181 )1 والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم2 من حيث لا يعلمون( 182 ) وأملي لهم إن كيدي متين( 183 )3 أو لم يتفكروا ما بصاحبهم3 من جنة5 إن هو إلا نذير مبين( 184 ) أو لم ينظروا في ملكوت السماوات6 والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون( 185 ) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون( 186 )7} .[ 181-186] .
لا يذكر المفسرون رواية في مناسبة نزوله الفصل .والمتبادر أنه استمرار للسياق السابق أيضا .وقد جاء معقبا بنوع خاص على الآيات السابقة له مباشرة لتوكيد ما تضمنته من تطمين وتثبيت وتنديد .وهي قوية في إنذارها وتنديدها وتطمينها:
فليس كل الناس ضالين ومنحرفين ومكذبين وغافلين ومن نصيب جهنم .فإن منهم من يدعون إلى الحق ويهدون إليه ويعملون به .ولا يغترن الذين يكذبون بآيات الله بما هم فيه من عافية ونعمة .فإن ذلك استدراج وإمهال واختبار .وليعلموا أن بأس الله ونقمته شديدان قاصمان .والأجدر بهم أن يترووا في موقفهم ويتفكروا ويتدبروا فيما يسمعونه ،وحينئذ يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبلغهم ما يبلغهم من آيات الله هو منذر ومحذر ولا يمكن أن يكون مجنونا .والأولى بهم أن يتفكروا في عظمة كون الله وما خلقه من كائنات فيروا أن الله سبحانه لا يمكن أن يكون في ذلك عابثا .والأفضل لهم أن يتذكروا أنهم ميتون حتما وأن الموت قد يكون قريبا جدا منهم .وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا الذي يبلغهم إياه النبي صلى الله عليه وسلم ،فليس هناك حديث ومحدّث آخر يمكنهم أن يؤمنوا به .وقد يفوتهم الوقت والفرصة فيندمون ولات ساعة مندم .ومن أصر بعد هذا الإنذار واختار الضلال على الهدى فهو وشأنه حيث يذره الله مرتكسا في ضلاله وطغيانه حتى يستحق ما أعده الله له يوم القيامة من المصير الرهيب .
وما قلناه في سياق الفصول السابقة نقوله هنا ،فإن مضمون الآيات وبخاصة ما فيه من نسبة التفكير والنظر والإيمان وقابلية الاهتداء يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من مضمون الآية الأخيرة ويجعل الوجه فيها هو ما وجهناه في سياق شرح الفصول الثلاثة جملة .
والفصل يحتوي تلقينا مستمر المدى أيضا كسابقيه .ففيه تنويه بالدعاة إلى الحق والعاملين به والدعوة إليه والحث على العمل به .وفيه تنديد بالاستغراق في الغواية وعدم التدبر والتروي في الأمور والمكابرة في الحق وعدم المبالاة بالعواقب وبمن يرتكس في ذلك .
هذا ،ومضمون الآية [ 184] وأسلوبها يلهمان أن نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بسبيل الرد على تهمة الكفار إياه بالجنون ،وإنما هو بسبيل الإنذار وتوكيد صدق الدعوة وجدها .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا عزاه إلى الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة عن أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ،وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وفي رواية وهم بالشام ){[1011]} والمفسر أورد الحديث للمناسبة الموضوعية .وقد جاريناه لأن فيه بشرى ربانية للأمة الإسلامية وتثبيت لمن يكون منهم على الحق حتى لا يبالوا بخلاف وخذلان من غيرهم .