{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ ( 1 ) نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ ( 2 ) لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( 122 )} ( 122 ) .
( 1 ) فلولا: هنا في معنى الحض أو الاستدراك .
( 2 ) طائفة: هنا بمعنى جماعة قليلة من جماعة أكثر .
في الآية:
تقرير تنبيهي بأنه ليس من الضروري أن ينفر جميع المؤمنين إلى الجهاد ،وأنه يكفي أن ينفر من كل فريق منهم قسم ،وأن من شأن ذلك أن يتيح لبعضهم التفقه في الدين وإنذار قومهم حينما يعودون إليهم حتى يحذروا مما يجب الحذر منه .
تعليق على الآية:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ............}
وما ينطوي فيها من صور وتلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها الطبري وغيره ( 1 ){[1146]} ،في سبب نزول هذه الآية .منها أنه لما نزلت الآيات السابقة في التنديد بالمتخلفين قال الناس: هلك المتخلفون بعد الآن فصاروا إذا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد يسارعون إلى النفرة بقضهم وقضيضهم ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخارجين إلى الغزوة ولو لم تكن الحاجة ماسة .ومنها أن من قبائل البدو التي أسلمت من أخذ ينتقل إلى المدينة بقضه وقضيضه ويقيم فيها أو حولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له وحجة مصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع منه والتفقه بالدين .وكان هذا مما يضيق على أهل المدينة .ومنها أن فريقا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا إلى البادية وأصابوا خيرا فأقاموا ،ثم أخذوا يدعون الناس إلى الإسلام فقيل عنهم: إنهم تركوا صاحبهم فوجدوا في أنفسهم وعادوا جميعا ،فنزلت فيهم بعذرهم وإيذانهم بكفاية وجود جماعة من كل فريق منهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتعلموا منه ويعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم .وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب أحاديث معتبرة .
والرواية الثالثة لا تتسق مع مفهوم الآية ولا مع روحها وسياقها كما هو المتبادر ،من حيث إن الآية في صدد جميع المؤمنين أو غالبيتهم العظمى على الأقل .والرواية الثانية ليست بعيدة الاحتمال .فإن المدينة بعد فتح مكة أخذت تعج بوفود قبائل العرب .وتدخل في دين الله أفواجا .فلا يبعد أن يكون منهم من حاول الإقامة في المدينة وحولها بحجة الرغبة في الجهاد والاستعداد له ومصاحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتفقه بالدين فسبب هذا ضيقا على أهل المدينة .
وقد صوب الطبري الرواية الأولى .وقد يكون التصويب في محله مع شيء من التعديل تقتضيه الوقائع المعروفة .فلم يرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا بنفسه غزوة ما بعد تبوك .كما أنه لم يرو خبر سرايا عديدة سيرها إلى ما كان من خبر سرية سيرها إلى اليمن بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،وإعداد جيش إلى البلقاء بقيادة أسامة بن زيد .ويتبادر لنا أن المسلمين خارج المدينة قد فزعوا وتحسبوا من عواقب الآيات السابقة فصاروا يقبلون على المدينة للاشتراك في الجهاد ومصاحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع له والتفقه بالدين .وكان في ذلك حرج عليهم وعلى أهل المدينة معا فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآية على سبيل التخفيف والتطمين والتعليم .وعلى كل حال فالآية متصلة بالآيات السابقة موضوعا وسياقا مع رجحان نزولها لحدتها بعدها من حيث إنها مترتبة عليها .والله أعلم .
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها الطبري وغيره في المقصود بالجملة الثانية من الآية .منها أنهم الذين ينفرون إلى الجهاد ؛حيث يعاينون نصر الله لأهل دينه فيكون ذلك لهم فقه في الدين ويرون مكائد الأعداء فيكون ذلك موضوع إنذار وتحذير لقومهم حين رجوعهم إليهم .ومنها أنهم الذين يبقون حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛حيث يتفقهون بما يسمعون منه من قرآن وحكم وينذرون بذلك قوم الذين نفروا إلى الجهاد حين رجوعهم .
ويتبادر لنا على ضوء الشرح المعدل الذي نقدم والذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن الجملة عائدة للطوائف التي أذن لها أن تنفر من كل فرقة وتفد إلى المدينة لتكون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقيما أو مجاهدا فتتفقه بما تسمعه من قرآن وحكم وتنذر قومها بما تعلمته حين تعود إليهم .والله أعلم .
والآية في حد ذاتها وبإطلاق عبارتها شاملة التعليم والتلقين لجميع المسلمين في مختلف ظروفهم .وفيها تعليم أسلوب من أساليب الاشتراك في الجهاد أو السعي للتفقه في الدين والوقوف على مقتضيات الأمور – حسب احتمال مضمون الآية – حيث أوجبت اشتراك جميع الفئات ،دون اشتراك جميع الأفراد .ولعل فيها إلهاما بالمناوبة في الاشتراك بين أفراد كل فئة فلا يتعطل الجهاد والسعي للتفقه ولا تتعطل مصالح الناس معا .وقد اعتبر بعضهم الآية مستندا لوصف فرض الجهاد بأنه فرض كفاية إذا قام به فريق سقط عن الباقين ( 1 ){[1147]} .وقد يكون هذا في محله إذا كان قيام فريق من المسلمين كافيا للحاجة وسادا لها .أما في حالة الضرورة فإن هذا الفرض يكون فرض عين على كل قادر .وقد كتب على المؤمنين جميعا على ما انطوى في الآية ( 216 ) من سورة البقرة .فإذا لم يقم به حينما تدعو دواعيه من الفئات ما يسد الحاجة أثم القاعدون .
ولقد أورد البغوي وهو إمام محدث أيضا بعد الأحاديث النبوية في سياق تفسير هذه الآية وفي صدد ما احتوته من التفقه بالدين رأينا من المفيد نقلها عنه ؛لأن فيها تعليما وتوجيها نبويين عظيمين في هذا الصدد لكل المسلمين في كل ظرف .منها حديث عن ابن عباس قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ( 1 ){[1148]} .وحديث عن أبي هريرة قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ،فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) وعلق البغوي على هذا الحديث تعليقا لا يخلو من الوجاهة حيث قال: ( والفقه هو معرفة أحكام الدين وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية .ففرض العين مثل علم الطهارة والصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفته .وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على واحد يجب عليه معرفتها ومعرفة علمها مثل الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه .وأما فرض الكفاية فهو أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا ،فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا .وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ) .ومما ساقه في صدد ذلك حديث نبوي جاء فيه: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) وحديث عن أبي أمامة قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) ( 2 ){[1149]} .وحديث عن ابن عباس قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) ( 3 ){[1150]} .وأردف هذا بقول للشافعي وهو: ( طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ) ( 4 ){[1151]} .