{طَآئِفَةٌ}: جماعة .
{لِّيَتَفَقَّهُواْ}: الفقه: العلم بالشيء ،وقد اختص بعلم أحكام الشريعة .
القرآن يدعو المؤمنين للنفر للتفقّه والإنذار
لا بد للأمّة من التنوّع في سدّ الحاجات التي يتوقف عليها نموّها وتطوّرها وحركتها الشاملة في الحياة ،وربما كان في مقدمة ذلك الحاجة إلى المعرفة الدينية الشاملة التي تثير الوعي الديني المنفتح في واقع الناس ،فيتحركون من خلاله إلى مواجهة قضاياهم العامّة والخاصة من قاعدةٍ إسلامية ثابتةٍ تدفع بهم إلى تحويل المواقف إلى حركةٍ حيّةٍ للمفاهيم الإسلاميّة من جهةٍ ،وللأحكام الشرعية من جهةٍ أخرى ،وإلى صدق الانتماء إلى العقيدة والشريعة في كل شيء ،فلا تبقى هناك أيّة ازدواجية بين ما هو الدين وما هو الحياة ،كما يحدث للكثيرين الذين يجهلون دينهم في مفاهيمه وفي تفاصيل أحكامه .وهذا ما جعل التفقّه في الدين واجباً كفائياً على الأمة كلها ،يفرض عليها أن تُعِدَّ من أفرادها مجموعةً تتكفل بالحصول على المعرفة الدينية الشاملة التي تجعل من حركة الإسلام في وعي الأمة وثقافتها حركةً واعيةً تفرض نفسها على الساحة كلها حتى تجعلها إسلاماً يتحرك في كل جانب واتجاهٍ .وهذا ما عالجته هذه الآية التي أرادت للمؤمنين أن ينفر بعضهم إلى التفقّه في الدين ،عندما ينفر بعضهم إلى الجهاد ،فلا يعتبروا الجهاد مهمّة الأمة كلها إلا في الحالات الصعبة التي تحتاج فيها الأمة إلى كل الطاقات المقاتلة للدفاع عن وجودها أمام الأعداء .
الجهاد واجب كفائي
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} إلى الجهاد ،لأن الجهاد قد يفرض قيام بعض الأمة بمسؤولياته من خلال الحاجة التي تفرضها المعركة .فقد لا تكون الساحة بحاجةٍ إلى الجميع ،بل يكتفى بالبعض منهم ،ولذلك فإن المسألة تخضع لأوامر القيادة وتخطيطها في من يجب عليه الخروج ومن لا يجب عليه ذلك ،فإذا أرادت الخروج من أحد ،فلا يجوز له التخلف ،كما قد يحدث في بعض الحالات في ما تحدثت به الآيات السابقة .أمّا إذا رخّصت لفريق بالبقاء ،لعدم الحاجة إليه ،أو لحاجةٍ أخرى تفرضها المصلحة الإسلامية العليا في مسألة الجهاد ،أو في المسائل الأخرى المتعلقة بالأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة ،فيجب عليه البقاء ،انسجاماً مع المصلحة الإسلامية في تنفيذ الخطة الشاملة الموضوعة من قبل القيادة .
النفر للتفقّه
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ} فلا بد من أن يكون هناك جماعةٌ تتخصص في الأمور الدينية لتحفظ للأمة وعي دينها من خلال المعرفة الواسعة في أمور العقيدة والشريعة ،لأن ذلك هو الأساس لانطلاقة الحياة في سبيل الله على هدى الإسلام بعيداً عن كل انحراف أو طغيان في ما يمكن أن يحدث من خلال الجهل الذي يستغلّه المستغلون ،فيصورون الحق بصورة الباطل وبالعكس ،فيتبعهم الجاهلون ،لعدم وجود من يميز بين الحق والباطل في ساحة المعرفة الحقّة ،فلا يجب على هذه الجماعة أن تنفر إلى الجهاد ،بل هي تعيش الجهاد ولكن في موقع آخر ،وهو جهاد المعرفة بمواجهة التحديات الفكرية التي تواجه الأمة من قِبل أعداء الإسلام ،لتثير فيها الشكوك والشبهات ،وتبعدها عن الطريق المستقيم ،بل ربما يكون الجهاد في هذا الوجه ،أكثر إلحاحاً وأعظم أهميّةً من الجهاد بالسيف ،لأنه هو الذي يعطي ذلك الجهاد توازنه وسلامته واستقامته على الخط الواضح السليم .ومن هنا ورد في بعض الأحاديث المأثورة: «إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء » .
مهمة الفقهاء
{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وتلك هي مهمّة الفقهاء الذين يحملون مسؤولية الفقه الديني ليبلِّغوه إلى الأمة ،في نطاق الإمكانات التي يملكونها في الحركة ،لأن القضية لا تمثِّل حالةً ذاتيّة تمنحهم الحرية في العطاء وعدمه ،بل هي حالةٌ عامةٌ ،لأنهم يحملون في فكرهم فكر الأمّة وثقافتها ودينها ،فلا يجوز لهم أن يمنعوها منه ،أو يحجبوه عنها ،بل ربما يستوحي الإنسان من الآية ،أن المسألة لا تقتصر على الجواب عند السؤال ،بل تتسع وتتسع ليتسلموا زمام المبادرة في الإبلاغ والإنذار ،لأن ذلك هو الذي يفتح آفاقها على الجوانب الخفيّة للمعرفة الدينية ،وهو الذي يوحي إليها بعلامات الاستفهام في التفاصيل ،باعتبار أن الجهل قد يؤدي إلى الغفلة التي لا يشعر الإنسان معها بالحاجة إلى السؤال .وهذا هو الردّ على الذين يصرفون شطراً كبيراً من أعمارهم في التفقّه في الدين ،حتى إذا تمّ لهم النضج العلمي والفكري ،جلسوا في بيوتهم وابتعدوا عن المجتمع متعلّلين بأنهم لا يرون الانفتاح على الناس بالتعليم على أساس المبادرة واجباً عليهم ،بل يرون الأمر متوقفاً على السؤال ،فيجب عليهم الجواب للرّد على السائل ،ولا يجب عليهم تعليم من لم يسأل .