سبب النّزول
روى الطبرسي( رحمه الله ) في مجمع البيان عن ابن عباس ،أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما سار إِلى ميدان القتال ،كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين والمعذورين ،إلاّ أنّه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين ،وخاصّة المتخلفين عن غزوة تبوك ،فإنّ المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إِلى ميادين الحرب ،بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه ،فإنّ جميع السرايا كانت تتوجه الى الجهاد ،ويدعون النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحده ،فنزلت الآية وأعلنت أنّه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسلمين إِلى الجهاد ،بل يجب أن يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإِسلامية وأحكام الدين من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويعلموا أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال .
وقد نقل هذا المفسّر الكبير سبباً آخر للنّزول بهذا المضمون أيضاً ،وهو أنّ جماعة من أصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) انتشروا بين القبائل يدعونهم إِلى الإِسلام ،فرحبّوا بهم وأحسنوا إِليهم ،إلاّ أنّ بعضهم قد لامهم على تركهم النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والتوجه إِليهم ،وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إِلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في الدعوة إِلى الإِسلام ،وأزالت قلقهم .
وروي سبب ثالث للنزول في تفسير «التبيان » ،وهو أنّ الأعراب لما أسلموا توجّهوا جميعاً نحو المدينة لتعلم الأحكام الإِسلامية ،فسبّب ذلك ارتفاع قيمة البضائع والمواد الغذائية ،وإِيجاد مشاكل ومشاغل أُخرى لمسلمي المدينة ،فنزلت الآية وعرّفتهم بأنّه لا يجب توجههم جميعاً إِلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها ،بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم .
التّفسير
محاربة الجهل وجهاد العدو:
إِنّ لهذه الآية ارتباطاً بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد ،وتشير إِلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين ،وهي: أنّ الجهاد وإِن كان عظيم الأهمية ،والتخلف عنه ذنب وعار ،إلاّ أنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنين كافة إِلى ساحات الجهاد ،خاصّة في الموارد التي يبقى فيها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة ،بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إِلى الجهاد: ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) .
فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإِسلامية ،ويحذرونهم من مخالفتها: ( ولينذروا قومهم إِذا رجعوا إِليهم ) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بإنذارهم ( لعلهم يحذرون ) .
ملاحظات
وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها:
1إِنّ ما قيل في تفسير هذه الآية إِضافةً إِلى أنّه يناسب سبب نزولها المعروف ،فإنّه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر ،إلاّ أنّ الشيء الوحيد هنا هو أنّنا يجب أن نقدر جملة «لتبقى طائفة » بعد «من كل طائفة » أي: لتذهب طائفة من كل فرقة ،وتبقى طائفة أُخرى ،وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة في الآية لا يستوجب إِشكالا .( فتأمل بدقة ) .
إِلاّ أنّ بعض المفسّرين احتمل عدم وجود أيّ تقدير في الآية ،والمقصود أن جماعة من المسلمين يذهبون إِلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي ،ويعرفون في ساحات الجهاد أحكام الإِسلام وتعاليمه ،ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين على الأعداء ،الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين ،وإِذا ما رجعوا يكونون أوّل من يشرح لإِخوانهم ما جرى{[1697]} .
والاحتمال الثّالث الذي احتمله بعض المفسّرين .وهو أنّ الآية تبيّن حكماً مستقلا عن مباحث الجهاد ،وهو أنّه يجب على المسلمين واجباً كفائياً أن ينهض من كل قوم عدّة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإِسلامية ،ويذهبوا إِلى معاهد العلم الإِسلامية الكبيرة ،وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إِلى أوطانهم ويبدؤون بتعليم الآخرين{[1698]} .
ولكن التّفسير الأوّل كما تقدمأقرب إِلى مفهوم الآية ،وإِن كانت إِرادة كل هذه المعاني ليس ببعيد{[1699]} .
2لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة ،إِذ الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إِلى ساحات الجهاد ،ووبخت المتخلفين بشدة ،أمّا هذه الآية فتقول .أنّه لا ينبغي للجميع ان يتوجهوا إِلى ميدان الحرب .
ولكن من الواضح أنّ هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة ،فمثلا في غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إِلى الجهاد لمواجهة الجيش القوي الذي أعدته إِمبراطورية الروم لمحاربة الإِسلام والقضاء عليه .أمّا في حالة مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إِلى الحرب ،خاصّة في الحالات التي يبقى فيها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه ،فإنّه يجب عليهم أن لا يُخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة ،وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم المعارف والأحكام الإِسلامية .
وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات ،وما تصوره البعض من التنافي هو اشتباه محض .
3لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإِسلامية ،وهي أعم من الأصول والفروع ،لأنّ كل هذه الأُمور قد جمعت في مفهوم التفقه ،وعلى هذا ،فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوباً كفائياً على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإِسلامية ،وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إِلى مختلف البلدان ،وخصوصاً بلدانهم وأقوامهم ،ويعلمونهم مختلف المسائل الإِسلامية .
وبناء على ذلك ،فإنّ الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل الإِسلامية ،وبتعبير آخر فإنّها أوجبت التعلم والتعليم معاً ،وإِذا كانت الدنيا في يومنا الحاضر تفتخر بسنّها التعليم الإِجباري ،فإنّ القرآن قد فرض قبل أربعة عشر قرناً هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين .
4استدل جماعة من علماء الإِسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد ،لأنّ التقليد إِنّما هو تعلم العلوم الإِسلامية وإِيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين ،ووجوب اتباع المتعلمين للمعلمين .
وكما قلنا سابقاً ،فإنّ البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين ،بل تشمل حتى المسائل الأُصولية ،وتتضمن الفروع أيضاً على كل حال .
الإِشكال الوحيد الذي يثار هنا ،هو أنّ الاجتهاد والتقليد لم يكن موجوداً في ذلك اليوم ،والأشخاص الذين كانوا يتعلّمون المسائل ويوصلونها للآخرين حكمهم كحكم البريد والإِرسال في يومنا هذا ،لا حكم المجتهدين ،أي إِنهم كانوا يأخذون المسألة من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إِبداء أي رأي أو وجهة نظر .
ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للاجتهاد والتقليد يتّضح الجواب عن هذا الإِشكال .
وتوضيح ذلك: إِن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم ،وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإِسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط ،لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إِلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء ،ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل ما لم يسمعوا حكمها بالذات من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،إلاّ أنّها كانت موجودة في عمومات واطلاقات آيات القرآن المجيد .فكان هؤلاء قطعاً يقومون بتطبيق الكليات على الجزئياتوفي الاصطلاح العلمي: رد الفروع إِلى الأُصول ورد الأُصول على الفروعلمعرفة حكم هذه المسائل ،وكان هذا بحد ذاته نوعاً من الاجتهاد البسيط .
إِنّ هذا العمل وأمثاله كان موجوداً في زمن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتماً ،فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للاجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعاً بهذه الدرجة .
ولما كان لهذه الآية مفهوماً عاماً ،فإنّها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي الأحكام ،كما تشمل قبول قول المجتهدين ،وعلى هذا ،فيمكن الاستدلال بعموم الآية على جواز التقليد .
5المسألة المهمّة الأُخرى التي يمكن استخلاصها من الآية ،هي الأهمية الخاصّة التي أولاها الإِسلام لمسألة التعليم والتعلم ،إِلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعاً إِلى ميدان الحرب ،بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإِسلامية .
إِنّ هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء ،ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر .بل إِن المسلمين ما لم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع ،فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء ،( لأنّ الأُمّة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائماً ) .
أحد المفسّرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثاً جميلا ،وقال: كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإِداري من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعيةفقال لي مرّة: لماذا تستثني الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعاً وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب ؟يعرّض بيأليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع ؟فقلت له على البداهة: بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم ،وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التّفسير وأثنى ورعاً{[1700]} .