{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب 6} .
السين والتاء للطلب ، فهم يطلبون التعجيل بالسيئة قبل الحسنة ، أي أنهم عندما يسمعون البشير والنذير ، يستعجلون العقوبات التي تكون في الإنذار بدل أن يعملوا الحسنات ويستعجلونها طالبين لها ، وذلك من فساد الفكر وضلال النفس ، وسيطرة العادة ، والمبالغة في إنكار الحق ، فإذا جاء إنذار بعذاب شديد إن استمروا في غيهم ، وجنات النعيم والعزة في الدنيا إن استقاموا على الطريقة واهتدوا ، لا يفكرون في فعل الخير يستعجلون به بل ينساقون في الإنكار ويستعجلون السيئة متهكمين ، مهملين مستهترين ، والسيئة ما يسوء في ذات نفسه ، والحسنة ما يحسن في ذات نفسه فهم يطلبون السيئ تحديا وتهكما ، واستهتارا ، وكأنهم لا يعبئون .
ويفعلون ذلك ، ويقولونه ، مع أن العبر بين أيديهم شاهدة بصدق ما يخبرهم به ربهم ؛ ولذا قال تعالى:{ وقد خلت من قبلهم المثلات}و{ خلت} معناها مضت{ من قبلهم المثلات} والمثلات جمع( مثلة ) ،ك( سمرة ) ، أي خلت العقوبات التي نزلت بالذين من قبلهم كما عتوا وتجبروا ، وعاندوا رسلهم ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وسميت مثلة ؛ لأنها كانت عقوبة متماثلة لما ارتكبوا ، ويصح أن تكون مشتقة من مثال بمعنى قصاص ؛ للتماثل بين الجريمة والعقوبة ، وذلك أعدل وأردع .
وإنه سبحانه وتعالى مع عدله في أن تكون العقوبة على قدر الجريمة ، وملاحظة التماثل بينهما من غير أي بخس لعمل ولا مجاوزة للعقاب يعفو عن كثير ؛ ولذا قال تعالى بعد أن قرر أن المثلات قد مضت ، أنه عندما يشتد سيل الشر ويتفاقم أمره ينزل العقاب ؛ دفعا للشر ووقفا له حتى لا يعم الفساد ، ويضل العباد ، قال تعالى:{ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي إن ربك لذو مغفرة ، تلازمه المغفرة كما يلازم الصاحب صاحبه حال كونهم ظالمين لأنفسهم بالشر الذي ارتكبوه ، ولكنه يقبل التوبة فالتوبة سبيل الغفران ، كما قال تعالى:{ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب . . .3} ( غافر ) . فالظلم بمعنى ظلم النفس بارتكاب المعاصي وليست بمعنى الشرك ، فإنه ظلم كما قال تعالى عن لقمان:{. . . .إن الشرك لظلم عظيم13} ( لقمان ) ، ولكنه هنا بما دون ذلك ؛ لأن الله تعالى لا يغفر الشرك ، كما قال تعالى:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . . .48}( النساء ) ، وكما أن الله سبحانه وتعالى صاحب المغفرة التي هي ستر الذنب ، ولا يحاسب عليه إذا كانت دون الشرك ، فهو أيضا شديد العقاب على المصرين على المعاصي الذين أحاطت بهم خطيئاتهم واستغرقت نفوسهم ، ولذا قال تعالى:{ وإن ربك لشديد العقاب} ، أي إن عقابه شديد لمن أصر على المعصية وتدرنت بها نفسه وأظلمت .
وقد أكد سبحانه وتعالى عقابه بالجملة الاسمية ، وب( إن ) التي للتوكيد ، وباللام .
ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى عبر بالرب في صحبة المغفرة ، وشدة العقاب ، وفي ذلك إشارة إلى أنه من مقتضيات الربوبية ، فهو يهذب عبيده بالإنذار بشدة العقاب ، وفتح باب من غير أن يقنط العصاة من رحمته ، كما قال تعالى:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا . . . .53}( الزمر ) .
وقد ورد في معنى هذا النص السامي آيات كثيرة منها قوله تعالى:{ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم 49 وأن عذابي هو العذاب الأليم 50} ( الحجر ) ، ومنها قوله تعالى:{. . . . . .إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم 165} ( الأنعام ) ، وقوله تعالى:{ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين 147}( الأنعام ) ، وهكذا النصوص القرآنية الدالة على أنه لا يصح أن يطمع العاصي في عفو مطلق ، ولا أن ييئس من رحمة الله تعالى ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى:"لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد "{[1348]} والله أعلم .
وإنهم مع قيام الدلائل على الوحدانية ، وقيام المعجزة الكبرى ، وهي القرآن يطلبون آيات أخرى وينكرون إعجاز القرآن مع قيام التحدي الشامخ . وعجزهم عن أن يأتوا بمثله ؛ ولذا قال الله تعالى لهم:{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هود7} .