إجابة رسلهم
جاء النور على المشركين كالضوء الساطع على من يكون في ظلام دامس ، فلا تقوى عينه على النظر وتضطرب وترتاب ، فقالوا:{ إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} ، فهذه حيرة من يكون في ظلمة حالكة فيلاقى ضوءا شديدا .
وقد كانت مجاوبة بين الرسل وأقوامهم ، وهذه المجاوبة صورة واضحة متحدة في كل الخلاف بين الشرك والإيمان أو بين الرسالة الإلهية ومن ينكرونها ، ولم تكن هذه المجاوبة بين رسول بعينه ، وقوم بأعيانهم ، بل هي صورة عامة جامعة متحدة ، وإليك المجاوبة:
{ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض} الاستفهام إنكاري توبيخي لإنكار الواقع ، فقد وقع الشك منهم كما تدل الآية السابقة ، وهو حيرة أهلل الظلام إذا رأوا النور تحيروا بين الباطل ألفوه ، وحق جاء إليهم هاديا فارتابوا .
وقدم الجار والمجرور{ أفي الله شك} لأهمية الشك في الله أو لغرابة أن يكون ثمة شك في الله تعالى ، وهو الذي فطر السموات والأرض ، أنشأهما إنشاء ، وفطرهما فطرا ، أيكون في وجوده شك ، وقد قامت الأدلة وتوافرت البراهين من الوجود بكل أطرافه .
هذا عجب عجاب من الشك في الله سبحانه وتعالى ، وهناك عجب من الشك فيما يدعو إليه الرسل ، إنهم يدعون إلى أمر نافع في ذاته لا يسوغ للعاقل أن يتشكك فيه أو يرتاب ، وقال تعالى:{ يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} وهنا أسندت الدعوة إلى الله تعالى لتربية المهابة في نفوسهم ، ولتكون النسبة إليه بيانا لوجوده ، ورقابته لهم ولأعمالهم وإشعارا لهم بالهيمنة عليهم ، وقوله تعالى:{ ليغفر لكم من ذنوبكم} ،{ من} هنا إما أن تكون بيانية ، ويكون المعنى ( ليغفر لكم ذنوبكم ) وتكون للدلالة على استغراق الغفران لكل الذنوب إذا آمنوا ، فإن الإسلام يجب ما قبله كقوله تعالى:{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . . . ( 38 )} [ الأنفال] ، وإما أن تكون للتبعيض ، أي ( ليغفر لكم بعض ذنوبكم ) ، وهو ما يتعلق بالشرك ونحوه ، أما ما يتعلق بالمظالم فإنه لا يغفر إلا أن يعفوا أصحابه .
وعندي أن تخريج القول الكريم على أنها بيانية أولى بالأخذ أولا ، لأن جب الإسلام لما قبله عام غير خاص بذنب دون ذنب ، وإذا كان الشرك قد غفر فما دونه أولى . وثانيا ، لأنه كان من المشركين من قتلوا وسفكوا فغفر الله لهم ذلك ، وحسبك أن الله غفر لو حشى قاتل حمزة ، وثالثا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن كل دم في الجاهلية موضوع ، وبأن ربا الجاهلية موضوع{[1369]} .
وقد ذكر سبحانه أنه يؤخرهم إلى أجل مسمى ، وبعده يكون البعث ، وفي هذا إنذار لهم إن استمروا في ضلالهم يعمهون .
هذا كلام الرسل ، فبماذا أجابوا ؟ .
أجاب المشركون بتصوير القرآن ذاكرا الإجابة التي اتحدوا فيها على اختلاف قرونهم ليبين للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يضيق صدرا بما يجادل به مشركو مكة ، فهو حال الشرك في كل العصور في إنكارهم رسالات الله ،{ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} ،{ إن} هنا نافية وهي مع الإثبات بعدها بالاستناد تفيد القصر ، أي أنتم معشر الرسل مقصورون على البشرية ، لا يصح أن تتعدوها إلى ادعاء أن الله يخاطبكم من عليائه وأنكم رسله إلينا ، كما قال مشركو مكة:{. . .ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . . .( 7 )} [ الفرقان] ، وجاء على لسان المشركين قولهم:{ مثلنا} ، أي أنكم تماثلوننا في البشرية ونحن لسنا أنبياء ، فلستم بأنبياء مثلنا ، وإنكم تحاولون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا من أوثان ، وكأنهم بهذا يستندون إلى حجة واهية من حججهم الداحضة ، وهي أنهم يتبعون آباءهم ، وذلك كاف لاستمرارهم في غيهم .
وقرنوا قولهم هذا بأن الرسل لم يقدموا حجة ، فأنكروا ما جاء إليهم من معجزات دالة على رسالاتهم تعنتا ولجاجة في الخصومة ، وقالوا:{ فأتونا بسلطان مبين} ، أي بدليل واضح بين يلائمنا ، والسلطان هنا الحجة ، وكثيرا ما عبر القرآن الكريم عنها بالحجة ؛ لأنها تجعل للخصم سلطانا على خصمه يلزمه بالقبول والخضوع لما يقول .
تنبيهان:
أولهما:أن الله تعالى جمع أقوال الرسل في قول واحد ، وهم كانوا في أجيال مختلفة ، وجمع أقوال المشركين في قول واحد ؛ لأنهم جميعا على قول واحد ، وكأنه نابت من منابت الشرك المتحدة ، فيكون إنتاجها واحدا ، ولبيان أن الرسل أجيبوا جميعا بمثل ما أجيب فليتأس وليصبر ، فإن الله لا يضيع أجر الصابرين .
ثانيهما:أننا خرجنا قوله:{ ليغفر لكم من ذنوبكم} رجحنا أن{ من} بيانية وسقنا ما نحسبه دليلا على الترجيح ، ومن الحق علينا أن نذكر رأيا مخالفا لرأينا وهو رأى إمام البلاغة الزمخشري ، فهو يرجح أن{ من} تبعيضية ، ولننقل لك عبارته الدالة على ذلك فهو يقول:"فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله تعالى:{ من ذنوبكم} ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله تعالى:{. . .واتقوه وأطيعون ( 3 ) يغفر لكم من ذنوبكم . . .( 4 )} [ نوح] ،{ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم . . .( 31 )} [ الأحقاف] ، وقال في خطاب المؤمنين:{ يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( 10 ) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 11 ) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفور العظيم ( 12 )} [ الصف] ، وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء .
وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد ، وقيل:أريد يغفر له ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم{[1370]} .
هذا ما وجب ذكره من كلام الزمخشري ليعلم القارئ الموضوع من وجوه النظر ، وما كنا لنهمل رأى إمام البيان الزمخشري ، وقد يسأل سائل لما ذكرت{ من} في جانب المشركين إذا آمنوا ، ونقول:لكثرة ذنوبهم فكان التعبير فيه إشارة إلى أن الغفران لكلها مع كثرته .