{ ألم يأتيكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ( 9 )} .
الاستفهام هذا للإنكار بمعنى نفى الوقوع فهو للنفي جاء على صورة الاستفهام تأكيدا للنفي كأنهم سئلوا فأجابوا بالنفي ، وهو داخل على النفي ، فنفى النفي إثبات ، فمعنى{ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح . . .} إلخ ، قد جاءكم نبأ الذين من قبلكم قوم . . . والنبأ الخبر الخطير الشأن .
وقد قال ابن جرير:"إن هذا الكلام على لسان موسى لقومه بني إسرائيل وأهل مصر"، ولكن رد ذلك القول ابن كثير في تفسيره ، ونحن معه ؛ لأنه لا دليل على نسبته إلى موسى عليه السلام ؛ ولأن فائدته في جعله عاما أوفى من حيث المعنى ؛ ولأن روح الآية تجعل الخطاب لمن يتلو القرآن من مشركي العرب وغيرهم .
و "النبأ"الخبر الخطير الشأن ، وقد كان خبر قوم نوح خطير الشأن ، وكذلك عاد وثمود ؛ لأنها أخبار بهلاك أمم وجماعات بسبب خروجهم عن أمر ربهم .
والمعنى في الجملة:قد أتاكم الخبر الخطير الشأن قوم نوح إلى آخره ،{ والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} ومن هم الذين من بعد هؤلاء ، ولم يعلم مآلهم إلا الله تعالى .
أحسب أن المراد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين كفروا برسالته ، ويعاندون فيها ، ويؤذون المؤمنين ، ويسفهون قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويصرون على عبادة الأوثان .
ويكون قوله تعالى:{ والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} تهديد لهم ، وحمل لهم على المقايسة بينهم وبين غيرهم ، فإذا كان نبأ الغابرين هلاكهم ، فليقيسوا حالهم على حال أولئك الغابرين .
وقد حكى سبحانه ما كان بين الرسل السابقين وأقوامهم ، فقال عز من قائل:{ جاءتهم رسلهم بالبينات} ، أي بالأدلة المبينة الهادية المرشدة التي لا يدخلها امتراء فلم يجيبوا . وعبر الله سبحانه وتعالى عن امتناعهم عن الإيمان بقوله تعالى:{ فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} كانت حالهم تجيب بأن ردوا أيديهم في أفواههم وقالوا . . .
وقد تكلم الزمخشري في قوله تعالى:{ فردوا أيديهم في أفواههم} فذكر عدة احتمالات مجازية لمعنى هذا التعبير القرآني الكريم ولم يعين واحد ، فقال:{ فردا أيديهم في أفواههم}يعضوها غيظا وضجرا مما جاء به الرسل ، كقوله تعالى:{. . .عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . . .( 119 )} [ آل عمران] ، أو ضحكا واستهزاء ، كمن غلب عليه الضحك فوضع يده على فيه ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم من قولهم:{ إنا كفرنا بما أرسلتم به} وهذا قول قوى ، أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء أطبقوا أفواهكم وأسكتوا ، أو ردوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون ، وقيل:الأيدي جمع يد ، وهي النعمة بمعنى الأيادي أي ردوا الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم ؛ لأنهم إذا كذبوها ؛ ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل"{[1368]} .
هذه الاحتمالات مختلفة لم يعين واحد منها للدلالة في الآية الكريمة ، وإن كان وصف القول الثالث بأنه قوى ، وإنا نرى أن وضع اليد في الفم يكون عندما يلقى إلى الشخص خبر مستغرب ، فالتعبير الكريم كناية عن استغرابهم الخبر ، وإن كان لنا أن نختار من احتمالات الزمخشري ، فهو قوله عضوا أنامله من الغيظ ، ولكنا مع ذلك نرى أنه كناية عن استغرابهم .
عرض لهم استغراب قول رسلهم أولا ، ثم انتهى الاستغراب بالإنكار ، ولكفر{ وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به} انتهى استغرابهم بالإنكار بكونهم رسلا ، فالكفر بالرسالة أما موضوعها وهو ما يدعونهم إليه من توحيد وشرائع ، فقد قالوا فيه:{ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} ومريب معناه موقع في الريب ، من أرابه أو أوجد عنده قلقا ، أي أنهم يرتابون في دعوى التوحيد ، وأنها تجعلهم في قلق بالنسبة لآلهتهم التي ورثوا عبادتها عن آبائهم ، فدعوة التوحيد تخرجهم من الاطمئنان إلى الباطل إلى الشك والريب ، فدعهم في ريبهم يترددون .