{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} الظاهر أن هذا الكلام تتمة لحديث موسى مع قومه ،إذ لو كان خطاباً موجهاً من النبي محمد( ص ) للمشركين من قومه ،لكان من المناسب أن يتحدث عن أقوام الأنبياء الذين يعرفونهم ،كقوم موسى وعيسى .والآية تستخدم أسلوب التذكير بالتاريخ للبرهان على النتائج السلبية للكفر والانحراف ،من خلال ما عاشه الكافرون من عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة ،بغرض ردع الكافرين المتأخرين ،عندما يقفون أمام المعادلة الإلهية التي لا تفرق بين الماضي والحاضر في أساس الثواب والعقاب ،فإذا كان كفر أولئك سبباً في نزول العذاب ،فإن كفر هؤلاء لن يكون بعيداً عن استحقاقهم لما استحقه أولئك الذين{جَآءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} التي تفتح عقولهم بالحجة الواضحة والبرهان القاطع على الحقيقة من أقرب طريق ،ودعوهم للإيمان على هذا الأساس ليفكروا ويتأملوا ويقتنعوا ،{فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} تعبيراً عن الغيظ ،فقد ذُكِر أن رد اليد إلى الفم يمثل مظهراً حيّاً للإعراض ولشدّة الغيظ ،{وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ،لأننا لم نقتنع به بديلاً عن عقيدة الشرك لدى الاباء والأجداد ،{وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ،بل إننا في شك يتزايد في مضمون الدعوة وشكلها وصاحبها ،كلما امتدت الدعوة فينا .ولكن هل هم جادّون في ادعائهم الريب والشك في هذه الدعوة ؟وكيف يوفّقون بين الالتزام بالكفر الذي يعني الجحود والنكران والقناعة المضادّة لخط الإيمان ،وبين التأكيد على الشك الذي يمثل حالة التذبذب بين مضمون الإيمان ومضمون الكفر ؟فإن هذا يشبه الجمع بين الشك بالشيء واليقين بخلافه ،إلاّ أن يكون المراد من الكفر عدم الإيمان الذي يلتقي بالشك ،لا الإيمان بالعدم ،ولهذا كان ردّ الفعل لدى الرسل ،أنهم ناقشوا مسألة الشك ولم يناقشوا مسألة الإيمان بالعدم .
وقد نلاحظ أن هؤلاء يحاولون التهرُّب من خط الالتزام بمثل هذه الادّعاءات ،لأن القضية لو كانت قضية الشك الجدّي في مضمون الدعوة ،لكان من المفروض أن يقفوا ليدخلوا في تفاصيل العقيدة ومسائل الدعوة ،ليثيروا علامات الاستفهام حول النقاط المثيرة للريب ،الباعثة على الشك ،ولكنهم تركوا القضية في دائرة الإبهام والغموض ،ليثيروا الضباب ،وليهربوا من حركة المسؤولية في خط الحوار .وهذا هو ديدن كثير ممن لا يريدون مواجهة الدعوة بمسؤولية فكراً وممارسة ،فيلجأون إلى الإيحاء بالشك من زاويةٍ فكرية يبحثون من خلالها عن اليقين ،في حين أنهم ينطلقون من مواقع العناد الذي لا يريدون التعبير عنه بصراحة .