ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما أنعم ، فقال تعالى:
{ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسمونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( 6 )} .
{ إذ} ظرف زمان للماضي ، والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم يذكر بنعم الله تعالى على المظلومين ، وأنه سبحانه ينقذهم من أذى طاغية الدنيا في عصره ، وهو فرعون ، وإن هذا إيذان بأنه ينقذ النبي ومن معه من المشركين ، وجاعلا لهم السلطان عليهم ، وقوم موسى هنا متعين أن يكون لبني إسرائيل ، وإن كان قوله:{ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} لا يخصهم ، بل يشملهم وغيرهم .
يقول لهم رسول الله الذي أنقذهم على يديه:{ اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون} ، أي أصحاب فرعون ونصرائه ومعاونيه على الشر ، ونرى أن فرعون في أكثر الآيات المثبتة لظلمه القاسي الغشيم لا يذكر فرعون وحده ، إنما يذكر ملؤه أو آله ، أو غير ذلك مما يدل على المؤازرين له ، وهذا ينبئ بمعنى أن سنة الله تعالى في خلقه أن الطغاة لا يطغون بذات أنفسهم ، ولكن بمؤازرة من الأشياع والأتباع ، ولو كانوا مرشدين ما كان منهم ذلك الظلم الغاشم فهم آثمون معهم .
وقد كانت النجاة أو الإنجاء من أقسى المظالم الإنسانية ، بشاعة وقسوة ، كما حاول من ساروا على دأبه – أسكنهم الله معه في السعير ، فهم وهو على سواء ، إلا أنهم أشد ؛ لأنهم جاءوا بعد أن جاءتهم البينات .
و{ إذ} بدل من الأولى ، وقد بين الله تعالى ما أنجى منه فقال:{ يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنائكم ويستحيون نساءكم} .
{ يسومونكم سوء العذاب} ، أي يذيقونكم أشد العذاب سوءا من استرقاق ، وإذلال وتكليفكم المشاق الغلاظ الشداد ، أو استباحة لكرامتكم ، وإبعادكم عن أماكن السلطان وجعلكم أرذالا تابعين ، ولم يجعل منكم سادة متبوعين ، حتى أنقذكم الله من هذا فجعلكم سادة أنفسكم ، وعبر عن ذلك سبحانه وتعالى بقوله:{. . .وجعلكم ملوكا . . .( 20 )} [ المائدة] ، أي مسيطرين على أنفسكم ولستم خاضعين لغير الله تعالى ، وقال سبحانه وتعالى مع هذا الإذلال والاسترقاق{ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} في سورتي البقرة والأعراف{. . .يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم . . .( 141 )} [ الأعراف] من غير ( واو ) ، كان هذا تفسيرا لسومهم العذاب ، وهو بيان بأفصح أحواله ، وهنا جمع بين الاسترقاق والذل والتكليف بالمشاق والأهوال ، وبين ذبح الأبناء واستحياء النساء .
وعبر عن قتل الأبناء هنا بالذبح للإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك ، وهم آمنون سالمون غير ثائرين ولا ناقمين ، فهم في غير اندفاعة ثورة ، ولكن في أمن ودعة ، يأتون إلى الطفل من حجر أمه أو بين لداته ويذبحونه ذبحا ، وحسبك أن تعلم أن أم موسى رضيت – بإلهام من الله – أن تلقيه في اليم مع رجاء الله تعالى ، عن أن تراه يذبح بين يديها .
وقوله تعالى:{ ويستحيون نساءكم} ، أي يطلبون حياة نسائهم وبقاءهن ، لا رغبة في ذات الإحياء بل ليكن إماء في بيوتهم ، ويستمتعون بجمالهن ، فهو ظلم فاحش لا يعرفه إلا فرعون وأمثاله ، كما رأينا واحدا منهم في هذا الزمان .
قال تعالى:{ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} ، الإشارة إلى الإنجاء ، ويصح أن تكون الإشارة إلى سوم العذاب ، وعلى الأول يكون البلاء هو بلاء بنعمة الإنجاء ، كما أشرنا إلى قوله تعالى:{. . .ونبلوكم بالشر والخير فتنة . . .( 35 )} [ الأنبياء] ، فالنعم تحتاج إلى صبر واختبار ، وإذا كانت الإشارة إلى سوم العذاب وتذبيح الأطفال واستحياء النساء يكون اختبارا من الله عظيما ، ونسب البلاء إلى الله تعالى ، وهو الرب الخالق ، للإشارة إلى أن تمكين فرعون من ذلك كان اختبارا من الله تعالى حتى يمتحنوا بالنقمة ، وتصقل نفوسهم بها .
وإني أرى أن الأول أوضح ، والله تعالى أعلم .