نعم الله تعالى توجب الشكر
في هذه الآيات بيان قدرة الله تعالى في خلقه ، وإحكامه وإبداعه ، وبيان نعمته على الإنسان ظاهره وباطنه ، وكيف سخر الحيوان للإنسان ، فتمكن من اتخاذ المأوى ، في الظعن وفي الإقامة ، وجعل ظلالا تقيهم الحر والبرد ، وسخر لهم النبات يتخذون منه لباسا يقيهم الحر ، ومن الحديد سرابيل تقيمهم في يوم البأس ، وكان ذلك إتماما لنعمة الله رجاء أن يسلموا ، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين وأقام الأدلة ، وما عليه إلا البلاغ .
ابتدأ سبحانه بالإشارة إلى عجائب الخلق ، والتكوين في الطير التي تسبح في الفضاء ، كما تسبح السفائن في الماء من غير ماء يحملها ، إنما خلقها تعالى لتحمل نفسها ، وتتوفى السقوط بأجنحتها ، وتسير في الفضاء كما تسير الدواب على الأرض لا عائق يعوقها ، ولا عقبات تمنعها ، حتى إن الإنسان عندما أراد أن يستخدم الفضاء ، تعلم منها ، ولذا قال تعالى:
{ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 79 )} .
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع ، فيكون بمعنى النفي المؤكد بإقرار السامع كأنه سئل وأجاب بالنفي ؛ ولذا كان الاستفهام بمعنى النفي المؤكد ، وقد دخلت أداة الاستفهام على حرف النفي ، ونفى النفي إثبات .
والمعنى لقد رأوا الطير مسخرات ، أي مذللات ، سخرها الله تعالى لتسير في الجو ، من غير حامل يحملها ، ولا ممسك يمسكها ، وهي مع هذا مسخرة لخدمة الإنسان ، فمنها ما يحمل الرسائل من مكان إلى مكان والشقة بينها بعيدة ، ولا يزال يستخدم إلى الآن ، ومنه ما هو مسخر للإنسان ، يأكل الحشرات التي هي آفة الزرع ، وكان كذلك يمنع مغارم التنقية حتى أباده الإنسان ومنها ما يعلم الإنسان ، ويحمى الزرع من صغار الطير ، وقد أبدناه الآن بالمبيدات التي نسلطها ، وصونا ننفق النفقات الكثيرة ، في الوقاية ، ولا وقاء .
وهكذا نجد الطير قد كانت مسخرة في الجو لسيرها ، ومسخرة للإنسان في نفعها .
وقد خلقها الله تعالى مهيأة لطيران في الفضاء ، وجعل كل أعضائها مناسبة بين كونها ، فلم يخلق لها يدين ، وخلق رجلين ليمكن ارتفاعها من الأرض ، وكانت رجلاه واسعة ، وأكثر قوته في صدره ، وكان قوتها حبا يبلع ؛ ولذا كان لها منقار ، ينقى ما تختار ، ولأن ما يبلع لا يكون فيه تفتيت بالمضغ ، كانت حرارة الحوية هامضة ، وجعل في أجنحتها ريشا قويا في خوافيه وقوادمه ، حتى تكون الخوافي قوة للقوادم وكانت الأجنحة ، لجلب الهواء الذي يحملها ، وهي طائرة ، فهي ترفرف بها لتجلبه ، حتى إذا استوى سارت كأنها تسير على مكان صلب ، أو ماء .
وهذا معنى قوله تعالى:{ ما يمسكهن إلا الله} فهو خلق فيها هذه القوى التي تقوى بها على الطيران ، ومع ذلك حاطها بكلاءته ، وحمايته ، كما أحاطها بفطرتها ، تبارك الله الخلاق العليم ، وقد بين سبحانه أن في هذا الخلق آيات ، لمن يعتبر ويستبصر ، يفكر في خلق الله تعالى وحكمته فقال تعالى قدرته:{ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} الإشارة إلى الخلق والتكوين والتسخير ، واللام في قوله تعالى:{ لآيات} ، ( لام ) التوكيد أو الابتداء بمعنى التوكيد ، و ( آيات ) ، أي دلالات قاطعة{ لقوم يؤمنون} ، أي الجماعة تتضافر على الحق وتطلبه ، وتتهداه ، وتتعرفه ، ومن شأنهم الإيمان بالحق إذا بدت دلائله ، وقامت براهينه ، وكان التعبير بالمضارع في قوله تعالى:{ يؤمنون} يعنى من شأنهم وحالهم الإيمان دائما ، أما غيرهم فقد غشيتهم غواشي الباطل وطمس عليهم الهوى ، فصاروا كالصم البكم الذين لا يعقلون ولا يدركون .