/م78
وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة اللّه عز وجل في علم الوجود ،وتقول: ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ) .
«الجو » لغةً: هو الهواء ( كما ذكره الراغب في مفرداته ) ،أو ذلك الجزء من الهواء البعيد عن الأرض ( كما ورد في تفسير مجمع البيان وتفسير الميزان وكذلك تفسير الآلوسي ) .
وبما أنّ الأجسام تنجذب إلى الأرض طبيعياً ،فقد وصف القرآن الكريم حركة الطيور في الهواء بالتسخير ،أيْ: أنّ الباري سبحانه قد جعل في أجنحة الطيور قوّة ،وفي الهواء خاصية ،تمكنان الطيور من الطيران في الجو على رغم قانون الجاذبية .
ويضيف قائلا: ( ما يمسكهنّ إِلاّ اللّه ) .
صحيح أنّ ثمّة أُمور مجتمعة تعطي للطيور إِمكانية التحليق والطيران ،مثل:
الخاصية الطبيعية للأجنحة ،قدرة عضلات الطيور ،هيكل الطير ،بالإِضافة إلى خواص الهواء الملائمة ..ولكنْ ،مَنْ الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص ؟
ومَنْ الذي أقرّ هذا النظام الدقيق ؟
فهل هي الطبيعة العمياء ،أم مَنْ يعلم بجميع الخواص الفيزيائية للأجسام ،وأحاط علمه المطلق بكل هذه الأُمور ؟؟
فإِذا ما رأينا نسبة هذه الأُمور إلى اللّه ،لأنّ منبع وجودها منه تعالى ،وأمثال هذا التعبير في نسبة الأسباب والعلل إلى اللّه كثيرة في القرآن الكريم .
وفي نهاية الآية ،يأتي قوله عزَّ مَنْ قائل: ( إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) ،أي إنّهم ينظرون إلى هذه الأُمور بعين باصرة وأذن سميعة ،ويتفكرون فيما يرون ويسمعون ،وبذلك يقوى إِيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر .
بحوث
1أسرار تحليق الطيور في السماء
إِنّنا لا نشعر بأهمية الكثير من عجائب عالم الوجود ،لاعتيادنا على كثرة مشاهدتها ،ولعدم انشغالنا بالتدقيق العلمي عند المشاهدة ،حتى باتت هذه العادة كحجاب يغطي تلك العظمة ،ولو استطاع أيّ منّا رفع ذلك الحجاب عن ذهنه لرأى العجائب الكثيرة من حوله .
وتحليق الطيور في السماء لا تبتعد عن هذه الحقيقة ،فحركة جسم ثقيل بخلاف قانون الجاذبية من دون أية صعوبة ،وارتفاعه بسرعة حتى ليغيب عن أعيننا في لحظات ،لأمر يدعو إلى التأمل والدراسة .
ولو دققنا النظر في بناء جسم الطائر لوجدنا ذلك الترابط الدقيق بين كل صفاته وحالاته التي تساعده على الطيران ،فهيكله العام: مدبب ليقلل من مقاومة الهواء على بدنه لأقصى حد ممكن ،وريشه: خفيف مجوف ،وصدره: مسطح يمكنه من ركوب أمواج الهواء ،وطبيعة أجنحته الخاصّة: تمنحه القوة الرافعة{[2121]} التي تساعده على الارتفاع ،وكذلك الطبيعة الخاصّة لذيل الطائر التي تعينه على تغيير اتجاه طيرانه ،وسرعة التحوّل يميناً وشمالا وأعلى وأسفل ( كذيل الطائرة ) ،وذلك التناسق الموجود بين النظر وبقية الحواس التي تشترك جميعاً في عملية الطيران ...وكل ذلك يعطي للطائر إِمكانية الطيران السريع .
ثمّ إِنّ طريقة تناسل الطير ( وضع البيض ) ،وعملية تربية الجنين ونموه ،تجري خارج رحم الأُم ممّا يرفع عنها حالة الحمل ،والتي تعيق ( بلا شك ) عملية الطيران ..وثمّة أُمور كثيرة تعتبر من العوامل المؤثرة فيزيائياً في عملية الطيران .
وكل ما ذكر يكشف عن وجود علم وقدرة فائقين لخالق ومنظم بناء وحركة هذه الكائنات الحية ،وكما يقول القرآن: ( إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) .
إِنّ عجائب الطيور لأكثر من أنْ تسطر في كتاب أو عدّة كتب ،فهناك مثلا الطيور المهاجرة وما يكتنف رحلاتها من عجائب ،وحياة هذه الطيور مبنية على التنقل بين أرجاء المعمورة المختلفة ،حتى أنّها لتقطع المسافة ما بين القطبين الشمالي والجنوبي على طولها ،وتعتمد في تعيين اتجاهات رحلاتها على إِشارات رمزية تمكنها من عبور الجبال والأودية والبحار ،ولا يعيق تحركها رداءة الجو أو حلكة الظلام في الليالي التي يتيه فيها حتى الإِنسان وبما يملك .
ومن غريب ما يحدث في رحلاتها أنّها: قد تنام أحياناً بين عباب السماء وهي طائرة !وقد تستغرق بعض رحلاتها عدّة أسابيع دون توقف ليل نهار ،وبدون أن يتخلل تلك المدّة أية فترة لتناول الطعام !حيث أنّها تناولت الطعام الكافي قبل بدءها حركة الرحيل ( بإلهام داخلي ) ،ويتحول ذلك الطعام إلى دهون تدخرها في أطراف بدنها ! وثمّة أسرار كثيرة تتعلق في: بناء الطير لعشه ،تربية أفراخه ،كيفية التحصن من الأعداء ،كيفية تحصيل الغذاء اللازم ،تعاون الطيور فيما بينها ،بل ومع غير جنسها أيضاً ...إِلخ ،ولكل ممّا ذكر قصّة طويلة .
نعم ،وكما تقول الآية المباركة: ( إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) .
/خ79