/م78
وتستمر الآيات في الإِشارة إلى النعم الإِلهية حتى نصل إلى الآية الثّالثة ( مورد البحث ) لتقول: ( واللّه جعل لكم من بيوتكم سكناً ) .
وحقّاً إنّ هذه النعمة المباركة من أهم النعم ،فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها .
«البيوت »: جمع بيت ،مأخوذ من ( البيتوتة ): وهي في الأصل بمعنى التوقف ليلا ،وأُطلقت كلمة: ( بيت ) ،على الحجرة أو الدار ؛لحصول الاستفادة منهما للسكن ليلا .ويلزمنا هنا التنويه بالملاحظة التالية: إِنّ القرآن الكريم لم يقل: إِنّ اللّه جعل بيوتكم سكناً لكم ،وإِنّما ذكر كلمة ( مِنْ ) التبعيضية أوّلاً وقال: ( من بيوتكم ) وذلك لدقة كلام اللّه التامة في التعبير ،حيث أنّ الدار أو الحجرة الواحدة تلحقها مرافق أُخرى كالمخزن والحمام وغيرها .
وبعد أنْ تطرق القرآن الكريم إلى ذكر البيوت الثابتة ،عرّج على ذكر البيوت المتنقلة فقال: ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً ){[2122]} .
وهي من الخفة بحيث: ( تستخفونها يوم ظعنكمأي: رحيلكمويوم إِقامتكم ) .بل وجعل لكم: ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ) .
وكما هو معلوم فإِنّ الشعر الذي يحمله بدن الحيوان بعضه خشن تماماً كشعر الماعز ويطلق عليه ( شعر ) ،وجمعه ( أشعار ) ،وبعضه الآخر أقل خشونة بقليل وهو: ( الصوف ) ،وجمعه: ( أصواف ) ،( والوبر ) أقل نعومة من الصوف ،وجمعه: ( أوبار ) ،وبديهي أنّ الاختلاف الحاصل في طبيعته وخشونته يؤدي إلى تنوع الاستفادة منها ،فمن بعضها تصنع الخيام ،ومن البعض الآخر يصنع اللباس ،ومن الثّالث الفرش وهكذا ...
أمّا عن المقصود ب «الأثاث » و «المتاع » في الآية ،فقد ذكر المفسّرون لذلك جملة احتمالات .
قال بعضهم: «الأثاث » ،بمعنى: الوسائل المنزلية ،وهي في الأصل من ( أثّ ) ،بمعنى الكثرة والتجمع ،وأطلقت على الوسائل والأدوات المنزلية لكثرتها عادة .
ويطلق: «المتاع » ،على كل ما يتمتع به الإِنسان ويستفيد منه ( فالمصطلحان إِشارة إلى شيء واحد من جهتين مختلفتين ) .
ومع ملاحظة ما ذكر فاستعمال المصطلحين على التوالي يمكن أن يشير إلى هذا المعنى: إِنّكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل بيتية كثيرة تتمتعون بها .
واحتمل البعض ومنهم «الفخر الرازي »: «الأثاث » بمعنى: الأغطية والملابس ،و«المتاع » بمعنى: الفرش ،إِلاّ أنّه لم يذكر أيَّ دليل لتفسيره .
واحتمل «الآلوسي » في ( روح المعاني ): «الأثاث » إِشارة إلى الوسائل المنزلية ،و«المتاع » إِشارة إلى الوسائل المستخدمة في التجارة .
ويبدو أنّ ما قلناه أوّلاً أقرب من الجميع .
وذكرت وجوه عديدة في تفسير: ( إلى حين ) ،ولكنّ الظاهر من مقصودها هو: استفيدوا من هذه الوسائل في هذا العالم حتى نهاية الحياة فيه ،وهو إِشارة إلى عدم خلود الحياة في هذا العالم وما فيه من وسائل ولوازم ،وأنّ كل ما فيه محدود .