وبعد أن بين سبحانه أن الغيب كله في علمه سبحانه وقدرته ، وأن الله تعالى قدير على كل شيء ، وأنه خالق العاجزين والقادرين ، والمنافقين ، ومن لا خير فيه ،{ أينما يوجهه لا يأت بخير} بين سبحانه أنه خلق الإنسان وعلمه ، فقال تعالى:
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( 78 )} .
( الواو ) هنا عاطفة على قوله تعالى:{ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} ، وقد عطف عليها من قبل قوله تعالى:{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا} ، وعطف عليهم قوله تعالى:{ والله أنزل من السماء ماء} ، وما كان من بعد كل من هذه المعطوفات ، إنما هو لبيان وجه العبرة فيها ، وضلال الشرك وأهله ، فهي تابعة لمعانيها ، فلا يكون ثمة مانع من العطف عليها .
وإذا كانت معطوفة على قوله تعالى:{ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} فهي لإثبات أن الغنى والفقر أمران مقدوران لله تعالى ، وإن الغنى من فضل الله ، ويوجب الشكر ، والفقر اختبار الله تعالى ويوجب الصبر ، ومع الصبر الجزاء ، وهو على صورة الصبر شكر لله تعالى .
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} ، أي شيئا من العلم بالحياة ومشاربها ، ومن العلم بحق الله على عبادة من إدراك عظمة خلقه في تكوينه الإنسان من سلالة من طين ، وجعله نطفة في قرار مكين ، وجعل النطفة علقة والعلقة مضغة ، وجعل المضغة عظاما ، ثم أخرجه من ضيق الرحم إلى سعة الوجود ، وهذا ما يشير إليه قوله:{ من بطون أمهاتكم} يخرج الجنين من بطن أمه لا يعلم شيئا من طرق الحياة ، ولكن يعطيه الله تعالى أسباب العلم بهذه الحياة وما يجرى فيها ، وهذا قوله تعالى:{ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} .
{ وجعل لكم} ، أي خلق لكم وصيره لكم{ السمع} ، والسمع يتضمن النطق ؛ لأن النطق لا يكون إلا لسميع ، إذ إن النطق لا يكون بالفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها إلا بالمحاكاة ، والمحاكاة ، لا تكون إلا إذا سمع الكلام بحروفه وعباراته ، وحاكاها ؛ ولذلك من فقد السمع لا يتكلم ، وهو الأخرس كما أشرنا من قبل .
وبالسمع يسمع هداية الله في كلام الرسل والصديقين ، وكلام رب العالمين ،{ والأبصار} بها يرى عظمة الله تعالى في خلقه ، فيرى السماء وقد زينها للناظرين ، والجبال والوهاد ، والشمس والقمر ، والنجوم مسخرات لأمر الله تعالى وإن كل هذه المعلومات الحسية يستودع الله تعالى الأفئدة فتدرك ، فالسمع والبصر يجمعان المسموعات والمرئيات والأفئدة تعتبر وتقدر وتدرك ، وتستبصر ، فيكون الإنسان المعامل في الحياة المدرك لمعناه الذي يدرك بالبداهة وجوب شكر المنعم ؛ ولذا قال تعالى{ لعلكم تشكرون} ، أي رجاء أن تشكروا لتوافر أسباب الشكر ، ودواعيه ، والرجاء من العباد ، ولا من الله سبحانه وتعالى .