جزاء الكفر بنعمة الله
ساق الله تعالى ذكر ما أنعم به عليهم ، والإنسان كله في فيض نعمة الله تعالى من يوم حمله جنينا في بطن أمه إلى أن يولد ، ومن بعد أن يولد هو في حياطة الله تعالى ورحمته ، إن مرض كشف عنه الضر ، ومنحه العافية ، وإذا كان في المخاطر تحطه رحمة الله تعالى ، وهو في مأواه ، وملبسه ، ونعيمه وراحته بعد تعبه في نعم الله تعالى ، وهو يعرف هذه النعم ، ويعرف أنها من عند الله تعالى ، وبفضل منه وكرمه ، والعرب في عصر النبوة وقبله ، كانوا أعرف الناس في جيلهم لربهم ، فهم كانوا يعرفون الله تعالى الذي خلق الكون وما فيه ومن فيه فيه وحده ، وهو الواحد في ذاته وصفاته ، ولكنهم بتسلط الأوهام يعيدون معه الأوثان ؛ ولذا قال سبحانه:
{ يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ( 83 )} .
هم يعرفون الله ومع ذلك يشركون ، ويعرفون أنه الضار النافع ، وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا وإذا كانوا في شدة لا يجأرون إلا إليه ، ويعرفون هذه النعم واحدة واحدة ثم ينكرونها فما هي هذه المعرفة ؟ إن للمعرفة مراتب ثلاث ، تبتدئ بتصور الأمور والوقائع ، ومنها النعيم فيتصور أن الله رازقه وخالقه ، فإذا تجاوز هذه المرتبة ، انتقل من التصور إلى الاعتقاد بالصحة ، فإذا اجتاز هذه المرحلة انتقل إلى المرحلة العليا وهي الإيمان ، والإيمان مراتب ، مرتبة التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل ، ثم مرتبة الإذعان ، والخضوع لما اعتقد ثم ينتقل إلى أعلى المراتب ، وهي مرتبة العمل .
وهذه هي المعرفة الكاملة ، ولقد قرر سقراط في الأخلاق أن المعرفة هي مقياس الفضيلة والرذيلة وهي المعرفة في أعلى درجاتها التي يصحبها عمل ، وكمال الإيمان تصديق وإذعان وعمل عند العلماء المدركين .
وقوله تعالى:{ يعرفون نعمت الله} يبدو أنها مرتبة المعرفة الأولى ، التصوير ، ثم التصديق من غير إيمان وإذعان ؛ ولذا ينكرونها ، أي أنهم لا يذعنون للاعتقاد بها ، وتبدو في أعمالهم ، وثم في قوله تعالى:{ ثم ينكرونها} لبعد ما بين مرتبة المعرفة والإنكار العملي ، ولقد قرر سبحانه أن أكثر الكافرين هم من هذا الصنف الذي ينكر بعمله ما عرفه بتصوره وصدقه بواقعه ؛ ولذا قال:{ وأكثرهم الكافرون} الضمير في ( هم ) يعود إلى الذين{ يعفرون نعمت الله ثم ينكرونها} وهم بعض أهل الجحود وقوله تعالى:{ وأكثرهم الكافرون} فيه تعريف الطرفين ، وهو يفيد القصر ، أي أن أكثر هؤلاء لا يكونون إلا كافرين ، فإن الكفر يكون بإنكار الحق ، وعدم الإقرار به كما في قوله تعالى:{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم . . .( 14 )} [ النمل] .