/م78
وتكميلا للحديث ..يضيف القرآن الكريم القول: ( يعرفون نعمة اللّه ثمّ ينكرونها ) .
فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإِلهية ،وإِنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإِيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق ،وتقديم منافعهم المادية على كل شيء ،وتلوّثهم بمختلف الشهوات ،بالإِضافة إلى مرض التكبّر الغرور .
ولعل ما جاء في آخر الآية: ( وأكثرهم الكافرون ) ،إِشارة لهذه الأسباب المذكورة .
وقد جذبت كلمة: «أكثرهم » ،انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها ...حتى توصل المفسّرون إلى أسباب كثيرة كلُّ حسب زاوية اهتمامه في البحث ،ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلِّ ما ذكروه ،وخلاصته: إِنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد ،والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياساً إلى أُولئك .
ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشىء من التكّبر والعناد ،ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية ( 34 ) من سورة البقرة ( أبى واستكبر وكان من الكافرين ) .
واحتمل البعض: أنّ المقصودين ب: «أكثرهم » مَنْ تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد ،وهذا المعنى يمكن أن يعود إلى المعنى الأوّل .
بحثان
1كلمات المفسّرين:
ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير: ( نعمة اللّه ) ،في الآية لا يعدو غالباً من قبيل التّفسير بالمصداق ،في حين أنّ مفهوم: «نعمة اللّه » من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية ،حتى أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى .
وروايات أهل البيت( عليهم السلام ) تؤكّد على أنّ المقصود ب «نعمة اللّه » ،هو وجود الأئمّة المعصومين( عليهم السلام ) .
وفي رواية عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) ،أنّه قال: «نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده ،وبنا فاز مَنْ فاز »{[2123]} .
فواضحُّ أَنَّ السعادة والنجاح لا يمكن إِدراكهما إِلاّ عن طريق قادة الحق ،وهم الأئمّة عليهم السلام ،فوجودهم إِذِنْ من أوضح وأفضل النعم الإِلهية ،( وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم اللّه سبحانه ) .
2صراع الحقّ مع الباطل:
لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة: «ثمّ » ،من قوله تعالى: ( يعرفون نعمة اللّه ثمّ ينكرونها ) ؛لأنّ استعمالها عادةً كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين ،ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم اللّه وبين إِنكارهم للنعم ،فقالوا: إِنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الاعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة اللّه ،وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الاعتراف ،إِلاّ أنّهم ساروا في طريق الباطل !فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة «ثمّ » .
ونحتمل أنّ: «ثمّ » ،هنا إِشارة إلى معنى خفي ،خلاصته: أنّ دعوة الحقّ عندما تتوغل إلى دواخل الروح الإِنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة ،فإِنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإِنكار الموجود فيه أحياناً ،فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل ،فإِنْ كانت عوامل النهي والإِنكار أقوى فإِنها ستغلبها بعد مدّة ..وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة «ثمّ » .
والآيتان ( 64 و 65 ) ،من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إِبراهيم ( عليه السلام ) ،تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي اللّه إِبراهيم( عليه السلام ) ،بعد أن حطم أصنامهم جميعها إِلاّ كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأُولى يغوصون في تفكير عميق ،ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم ،وكادوا أن يهتدوا إلى الحقَّ لولا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم ( التعصب ،الكبر ،العناد ) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق ،فعادوا من جديد إلى ما كانوا عليه ،ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة «ثم » أيضاً: ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إِنّكم أنتم الظالمون ثمّ نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) .
وعلى هذا فمعنى: «الكافرون » ،يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة «ثم » .