وقد ذكر سبحانه وتعالى حال اليهود ، فأشار سبحانه إلى أن اليهود قسمان:أحبار أو علماء ، وأميون يضلون الآخرين بدعوى أنهم وحدهم أوتوا علم الكتاب ؛ ولأن الآخرين لا يعرفون الكتاب إلا أماني يتمنونها ، فيشبعوا أمانيهم وأهواءهم ، ولذلك قال تعالى:{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} .
الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأمة الأمية التي لا يسودها العلم ، وكان الأحبار من أهل الكتاب يقولون:{ ليس علينا في الأميين سبيل . . . -75 )} [ آل عمران] ، وقد ينسب الأمي إلى الأم على اعتبار أنه على أصل ولادة أمه ، لم يزد علما عما ولدته عليه أمه .
وهؤلاء الأميون لا يقرأون الكتاب ، ولا يعرفون أحكامه ، وما اشتمل عليه من تكليفات اجتماعية وعبادية ، وإنهم لفرط جهلهم بالكتاب لا يعلمون إلا ما يكون فيه إرضاء لأمانيهم ، والأماني جمع أمنية ، وهي ما يتمناه القلب ويحبه ، وما يتمنونه أهواء مسيطرة عليهم كقول عامتهم وخاصتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولقد قال تعالى:{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم . . . ( 111 )} [ البقرة] أي ما يتمنونه ، ويقول تعالى:{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ( 123 )} [ النساء] .
وفي الجملة الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون ، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما ، فيها حساب ، وثواب أو عقاب ، إنما يعلمونه رغبات تتحقق ، وأهواء تثبت ، ومثلهم كمثل عوام المسلمين ، الذين يقولون أمة الإسلام على خير ، ولو لم يعملوا أي عمل ، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط ، و لو زنوا أو سرقوا ، وسكروا ، وعبثوا في كل معبث ، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه ، وسدوا باب الجهاد ، وكانوا كلا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم .
وقوله تعالى:{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} قالوا:إن الاستثناء منقطع ، فيكون المعنى لا يعلمون شيئا من الكتاب الذي يتلونه ولا يفهمونه ، ولكن يعلمونه أماني يتمنونها وأهواء يبتغونها ، ولا يدركون التكليفات والأحكام ، ولا يعلمون المواثيق التي أخذت عليهم .
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا ، ويكون المعنى أنهم لا يعلمون من علم الكتاب إلا ما يرضي أمانيهم ، ويشبع أهواءهم . ويرشح لذلك قوله تعالى من بعد:{ وإن هم إلا يظنون} أي إن علمهم ظن ، وليس بيقين له مقدمات يقينية ينتج علما يقينيا ، وإنما تنتج ظنا ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، فعلمهم أوهام في أوهام ، وهل تنتج الأهواء التي تنبعث من الأماني يقينا أو علما صادقا ؟ .
لقد قال بعض العلماء:إن الأماني من التمني ، وهو لا يكون إلا كذبا ، ولقد قال تعالى:{ وإن هم إلا يظنون ( 78 )} أي ليس علمهم إلا ما يظنون علما ، وما هم بمتيقنين ، ولقد أكد الله تعالى قصر علمهم على الظن الذي يتجدد لهم آنا بعد آن ، فنفى عنهم العلم وقصره على الظن ، أي ما عندهم من علم إلا الظن الذي تدفع إليه أوهامهم ، وعبر بالمضارع للإشارة إلى أن ظنهم يتجدد ويستمرون في أكاذيب يبتدعونها ، وظنونا يختلقونها أو يختلقها لهم أحبارهم .