ولما ذكر العلماءَ من اليهود الذين عاندوا بالتحريف ،مع العلم والاستيقان ،مع ذكر العوامَّ الذين قلدوهم ،ونبَّه على أنهم في الضلال سواء .لأن العالِمَ عليه أن يعمل بعلمه ،وعلى العامّيّ أن لا يرضى بالتقليد والظن ،وهو متمكن من العلم ،فقال:{ ومنهم أميّون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون 78} .
{ ومنهم أميّون} أي لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة ،فيؤمنوا .{ لا يعلمون الكتاب} أي التوراة ،أي لا يدرون ما فيها من حدود وأحكام ومواثيق{ إلا أمانيّ} بالتشديد جمع أمنية ،أصلها أُمْنُويَة ( أفْعُولَة ) فأُعِلَّتْ إعلالَ سيّد ،وميّت .مأخوذة من تمني الشيء:قدّره وأحب أن يصير إليه .أو من تمنّى:كذب .أو من تمنّى الكتاب:قرأه .وعلى كل فالاستثناء منقطع ،إذ ليس ما يُتمنى ،وما يُختلق وما يُتلى ،من جنس علم الكتاب .أي لا يعلمون الكتاب .لكن يتمنون / أمانيّ حسبما منَّتْهم أحبارُهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم .وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم .وغير ذلك من أمانيّهم الفارغة .المستندة إلى الكتاب ،على زعم رؤسائهم .أو لا يعلمون الكتاب ،لكن أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم .فتقبلوها على التقليد .أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم .فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر والتأمل فيه .
قال ابن جرير:وأوْلى ما روينا في تأويل قوله:{ إلا أماني} أن هؤلاء الأميين لا يفقهون ،من الكتاب الذي أنزله الله ،شيئا .ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا .والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرّصه وافتعاله .بدليل قوله تعالى بعدُ:{ وإن هم إلا يظنّون} فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم ،لا يقينا .
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ:حَمْلُهُ على تمني القلب أولى .بدليل قوله تعالى:{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى * تلك أمانيّهم}{[630]} أي تمنيهم .وقال الله تعالى:{ ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب * من يعمل سوءا يجز به}{[631]} وقال:{ تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم}{[632]} ،{ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر * وما لهم بذلك من علم * إن هم إلا يظنون}{[633]} بمعنى يقدّرون ويخرصون .ورجح كثيرون حمله على القراءة ،كقوله تعالى:/{ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}{[634]} إذ في الاستثناء ،حينئذ ،نوع تعلق بما قبله .فيكون أليقَ في طريقة الاستثناء .و{ إن هم إلا يظنون} ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد ،من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم .فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ؟
( تنبيه ):
قال الراغب:قد أنبأ الله عن جهل الأميين وذمهم والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم .فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة .واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم .وهم قد ضلوا وأضلوا .ونبهنا الله تعالى بذم الأميين ،على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه .وبذم زعمائهم ،على تحرّي الصدق وتجنب الإضلال .إذ هو أعظم من الضلال اه .