قال تعالى:{ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون} .
أم هنا كالسابقة للإضراب والاستفهام ، وهو إضراب انتقالي من اتخاذهم آلهة ليس لها قدرة في شيء ، وأنه لو كان التعدد لكان الفساد . انتقل من هذا بالإضراب إلى بيان أن اتخاذ شريك لله تعالى لا يؤيده العقل بل يخالفه وينكره ، وكل دعوى لا بد لها من دليل ، ودليلها نقلي أو عقلي ، فأين الدليل وقد طالبهم النص السامي والاستفهام الذي تتضمنه "أم"لإنكار الواقع أي لتوبيخهم على اتخاذهم آلهة غير الله تعالى ، و{ من دونه} يعني غيره مع قيام الدليل العقلي على أن ذلك لا يجوز بدليل التمانع في قوله تعالى:{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ومع هذا التوبيخ طالبهم الله تعالى بأن يأتوا ببرهان على صحة ما يدعون ، وما يفتاتون ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بالبرهان:{ قل هاتوا برهانكم} وكانت هذه المطالبة من الرسول صلى الله عليه وسلم لإفحامهم ولبيان عجزهم عن أي دليل ، وأي مبرر معقول أو غير معقول ، وإلا فكيف يستطيع العاقل أن يجد دليلا أو مبررا يبرر به عبادته لحجر لا ينفع ولا يضر ، أو لإنسان خلقه الله تعالى كما خلق كل شيء .
وليس لديهم أي دليل عقلي ، ومع ذلك ليس عندهم دليل من النقل ، بل الدليل النقلي ، وما عليه الرسل يناقض ما يقول ، ولذا قال الله حكاية عن تنبيه:{ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي} "ذكر"بمعنى "تذكير"وهو هنا من باب إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي هذا تذكير الذين فيهم وهم من معه ، وهو القرآن ليس فيه إلا التوحيد الخالص والشرائع النزهة الطاهرة عن كل ما فيه شرك بالله{ وذكر من قبلي} أي هذا تذكير من كان قبلي من الناس لقد ذكرهم رسلهم بالتوحيد ، ودعوا إليه ويصح أن يكون الذكر هو القرآن ، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل ، ودعوا إليه ويصح أن يكون الذكر هو القرآن ، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية والغاية واحدة ، لأن القرآن يكون فيه الذكر لمن معه ، والتوراة والإنجيل والزبور فيها الذكر لمن كان قبله صلى الله عليه وسلم .
فقد كان الانتقال من طلب الدليل المثبت إلى تقديم الدليل مما ادعوه واتخذوه من عبادة الأوثان ، ثم قال تعالى:{ بل أكثرهم لا يعلمون الحق} والإضراب ب"بل"هنا للإشارة إلى أنهم طمس الله على بصيرتهم فصاروا لا يعلمون الحق ولا يدركونه ، ولا يعرفون السبيل إليه ، لأن قلوبهم غلف ، ولا سبيل لأن يعرفوا الحق بها ويرشدهم{ فهم معرضون} "الفاء"هنا للسببية أي أن ذلك بسبب أنهم معرضون ، فهم حائرون بائرون ، لا يرشدون بعقولهم ، ولا يستمعون إلى مرشد يرشد ، بل يعرضون عنه إعراضا .