أكد الله سبحانه وهو الصادق في كل قول ، ولا يحتاج إلى توكيد قول ، ولكنه أكد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنه أن يستهزئ ناس بنبيهم الذي جاء لهدايتهم ، ولأن الوحدانية حق لا يستهزأ منه ، وعبادتهم الأوثان هي الجديرة بالاستهزاء والسخرية ، فأكد سبحانه لمواساة النبي صلى الله عليه وسلم ، وليوقع في نفسه عليه الصلاة والسلام بأن دعوة الحق لا يعارضها ناس فضلاء ، من طبيعة الأخساء أن يهبطوا في خصومتهم إلى دركة الاستهزاء ، فقال:{ ولقد استهزئ برسل من قبلك} أكد سبحانه استهزاء السابقين ب "اللام"و"قد"، ونكرت "رسل"لكثرتهم ومقامهم من الله ، أي رسل كثيرون لهم مكانتهم عند الله وفي أقوامهم ، والحق يسخر منه أهل الباطل خصوصا إذا كان واضحا نيرا ، والباطل حجته داحضة ، ويشعرون بأنها ليست حجة ، ومع ذلك يستمسكون بها إتباعا لأوهامهم ، ولآبائهم وخضوعا لعادات وتقاليد فاسدة .
وإنهم محاسبون على استهزائهم ، لقد حسبوه لغوا من الأقوال والأفعال ، وهو عند الله عظيم ، لأنه كفر وعناد وخسة ، ولذلك كان له عقابه في الدنيا والآخرة ، وقال تعالى:{ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون} .
"الفاء"تدل على أن ما بعدها مسبب لما قبلها ، وقد صرح بهذه السببية ، فخص سبحانه وتعالى نزول العذاب أو العقاب بالذين سخروا منهم ، فذكر الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم ، وكان الإظهار في مقام الإضمار ، لبيان هذه السببية ، و( حاق ) معناها نزل بهم وأصابهم ، وقد خص الساخرين بعقاب خاص لأنهم في معارضتهم بهذا النوع من المعارضة كانوا أخساء في ذات أنفسهم ، فمن ذا الذي يجعل أبا جهل في معارضته للإيمان كأبي سفيان ، فالأول خسيس والثاني فيه شرف ، ولقد قال وهرقل يسأله عن محمد بن عبد الله:لولا أني أخشى أن تحفظ عني كذبة في العرب لكذبت .
وقال تعالى:{ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون} والمراد عذاب الاستهزاء لا ذات الاستهزاء ، ولكنه سبحانه عبر بأن الاستهزاء ذاته هو الذي يحيق للإشارة إلى الجزاء وفاق للجريمة فهو هي ، لبيان المساواة العادلة ، و{ ما} في قوله{ ما كانوا به يستهزؤون} مصدرية ، أي استهزاءهم .
والجزاء الذي ينزل بهم هلاك في الدنيا ، وقد جاء قصص القرآن بهلاكهم في آيات كثيرة ، وعذاب أليم في الآخرة .