{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ( 76 )} .
الضمير في قوله:{ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} يعود إلى مشركي مكة الذين كانوا يعاندون النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يعود إلى الكفار عامة من حيث إنه بيان لحال الكفار ، في أنهم إذا نزلت بهم جائحة أو شديدة خنعوا في وقت نزولها ، وما استكانوا لها وما تضرعوا لها وما تضرعوا بعدها وآمنوا . كان تفسير الزمخشري على أن موضوع القول ، هم كفار مكة نزلت بهم مجاعة ، كما جعل موضوع الآية السابقة والآية التالية أهل مكة ، وذكر أن ثمامة بن أثال الحنفي منع الميرة عن أهل مكة ، وقال:لا أعطيكم حبة حنطة إلا أن يأذن رسول الله ، فأخذهم الله تعالى بالسنين فجاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة ، وقال له:أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين . فقال محمد صلى الله عليه وسلم بلى ، فقالت:قتلت الآباء ، وجوعت الأبناء فنزلت هذه الآيات الثلاث{[1544]} .
وربما يكون هذا الكلام مستقيما لو كانت الآيات بعد غزوة بدر ، وبعد الغزوات كلها إلى الحديبية ، ولكن السورة كلها مكية ونسقها مكي ، فكيف تجيء آية بمعان مدينة لم تتحقق إلا في المدينة ، ولم يثبت أن هذه الآيات نزلت بالمدينة استثناء من السورة .
ولذا نقول:إن الآيات الثلاث عامة في وصف غير الكفار في كفرهم من أنهم يخنعون عند الشدائد ، ويعودون إلى الاستكبار ، فيخنعون ، ثم يتمردون ، اقرأ قوله تعالى:{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ( 133 ) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 134 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ( 135 )} [ الأعراف] .
فالله جل علاه كان ينزل الشدائد على الكافرين ، فيذلون عند نزولها ، ولكن إذا انكشفت الغمة عادوا إلى كفرهم وطغيانهم ، كما رأينا في فرعون وملئه ، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن ذلك شأن كل الكافرين يكشف الله تعالى عنهم الضر إذا أصيبوا به ، فيخنعون في وقته ، ثم يعودون إلى كفرهم بعد كشفه .
وقوله تعالى:{ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} "الفاء"للإفصاح ، والاستكانة معناها كما أشار الراغب ، وبين الزمخشري:الانتقال من كون إلى كون ، وحال إلى حال ، فهي افتعل من كان ، أي فيما انتقلوا من الكون الذي هم فيه وهو الكفر إلى الكون الذي يدعوهم رسولهم إليه ، وهو الإيمان بالله ورسوله{ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي لم ينتقلوا إلى كون الإيمان ، وما اتجهوا بالضراعة الدائمة المتجددة لله تعالى المستمرة شأن المؤمنين الضارعين لربهم ، وكان نفي المضارع لنفي تجدد الضراعة ودوامها في كل أحوال الشخص ، لا في وقت الشدة فقط .
وقوله:{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} ، معناها أخذناهم متلبسين بالعذاب ، أي أنه سبحانه أخذهم ، وهم في حال العذاب وأنقذهم ، ومع ذلك استمروا على كفرهم