حد القذف
هذه جريمة القذف ، وهو في الشريعة رمي المحصن بالزنى ، والمذكور في الآية رمي المحصنات ، وقد ثبت بقانون المساواة أن هذا حكم رامي الرجال ؛ ذلك لأن قانون المساواة الشرعية يجعل حكم الرجل كحكم المرأة ، فإننا نرى التكليف كان في أكثر الأحوال يجيء بمخاطبة الرجال ، ثم يدخل النساء بحكم قانون المساواة في التكليف .
وذكر النساء وحدهن ، وإن دخل الرجال بحكم قانون المساواة ، لأن المحصنات يصيبهن ضرر الرمي بالزنا أكثر من الرجال بحكم العرف في الدنيا ، ولأنها موضع الأمانة الربانية ، فصيانتها أوجب ، ورميها يكون أشد ، ولأن أول رمي كان لأطهر نساء قريشبعد فاطمةزوج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر الصديق ، فكان ذكر النساء أولا .
وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} لم يقل بالزنى ، بل لم يذكر المرمي به تحصنا وإبعادا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات ، وقوله تعالى:{ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، الفاء هنا كفاء الشرط لتضمن الوصول معنى الشرط ، وفيه مع ذلك إشارة واضحة إلى أن رمي المحصنات هو سبب هذا الحكم القاسي ، والإحصان يتضمن معاني ثلاثة:أولها:الإسلام ، فلا إحصان لغير مسلم ولا مسلمة ، وثانيها:الحرية فلا إحصان لعبد ، ولا لأمة ، وثالثها:ألا يقع في زنى من قبل ، أو يكون قد دخل في عقد فاسد بشبهة تسقط الحد ، ولا تمنع بقاء وصف الزنى كالعقد على المحارم ونحوه مما هو مفصل في كتاب "الزواج"، فليرجع إليه{[1550]} .
والعقوبات ثلاث كما أشرنا:
الأولى:الجلد ثمانين جلدة ، ووضحنا المعنى في التعبير بقوله{ فاجلدوهم} من حيث إن المراد ضرب يؤلم الجلد ، فلا يكون ثمة حاجز يمنع إيلام الجلد كحشية أو نحو ذلك ، وهذه عقوبة بدنية تصيب البدن وتؤلمه ، وإذا كانت هذه عقوبة ومن قبل عقوبة الزانية فيها قسوة ، فإنها رحمة بالجماعة المؤمنة من أن يفشو فيها الزنى ، ويشيع ، وفي ذلك فتنة وخراب وفساد كبير ، وضياع للأمم ، وللنسل ، وخيانة للأمانة التي أودعها الله أصلاب الرجال ، وأرحام النساء .
الثانية:إهدار أقوال القاذفين بألا تقبل لهم شهادة في قضاء ، هذا قوله تعالى:{ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} والأبدية توجب ألا تقبل لهم شهادة مطلقا:تابوا أو لم يتوبوا ، وهذا ما قرره الحنفية وأكثر الفقهاء ، وقرر الشافعية أن التوبة النصوح تنهي هذه العقوبة ، لأن التوبة المقبولة تجب ما قبلها من المعاصي ؛ ولأن استثناء التوبة في الآية:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} جاء بعد{ لا تقبلوا} ، والحكم بالفسق ، فيشمل الاستثناء منهما لا من أحدهما ، ونحن نميل إلى ما فهمه الحنفية ، أولا لأن النص على الأبدية يمنع الاستثناء ، ولأن{ وأولئك هم الفاسقون} جملة مستقلة ، والجملة "ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا"قد انتهت ، فلا يتعلق الاستثناء بها ؛ ولأن هذا هو الذي يلائم أنها عقوبة ، ولأن إشاعة الفاحشة أعظم جرائم اللسان ، فيجب أن تتعلق العقوبة به .
العقوبة الثالثة:الوصف بالفسق في قوله تعالى:{ وأولئك هم الفاسقون} ، وهذه هي التي دخلها الاستثناء ؛ لأنها في جملته والحكم بالفسق اقترن به الاستثناء ، فخرج المستثني من حكم المستثني منه .
وشرط تحقق حد القذف ، ألا يأتي من يرمي بالزنى بأربعة شهود هو منهم ، وبعبارة أدق بثلاثة معه يقرون قوله ، ولذا قال تعالى:{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وكان التعبير في العطف ب ( ثم ) الدالة على التراخي فيه إشارة إلى بعد الحصول على ثلاثة يشهدون معه ، فإن إثبات الزنى بأربعة عسير ، إلا أن يكون فعلا علنيا ، ولا يحدث ذلك إلا في أفحش الأمم فجورا كأهل أوروبا وأمريكا .
والرميلكي يقام حد القذفيجب أن يكون رميا صريحا بالزنى حتى يقول الفقهاء إنه رآه يضع إحليله في فرجها كما تضع الميل في المكحلة ، أو نحو هذا التعبير .
ولو عرض لا يكون رميا بالزنى ، ولو كان التعريض كالتصريح وضوحا ، وقد رمي المغيرة بن شعبة الذي صار نصيرا لمعاوية ، فشهد ثلاثة من الأربعة بالرمي الصريح ، وعرض زياد ابن أبيه الذي ألحقه معاوية بنسبه لم يصرح ، فعدّهم عمر بن الخطاب الذي كان يقضي في الأمر بنفسه ، قاذفين ، وعاقبهم عقوبة الجلد .
وما كان ذلك إلا ليحمل الناس الذين يرون تلك الجريمة البشعة ألا ينطقوا بها ، حتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويشيع الترامي بالزنى ، فيستهين الناس به .
ثم قال تعالى في وصف القاذفين{. . . وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 4 ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 )} . الإشارة إلى الذين يرمون المحصنات ، والإشارة إلى الموصوف بصفة أو القائم بعمل ، بين أن ذلك العمل هو سبب الحكم ، فالقذف سبب الحكم بالفسق ، لأنه في ذاته فسق في القول ، وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم بفسقهم أولا:بالجملة الاسمية ، وثانيا:بضمير الفصل "هم"، وثالثا:بجعل الفسق وصفا لهم ، ورابعا:بقصرهم على الفسق ، أي أنهم لا يخرجون من الفسق ، فهم في دائرته لا يخرجون عنها ، فهم في شر مستمر دائم لا يخرجون عن دائرته قط إلا إذا تابوا ، ولذا قال تعالى:{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} .