حد القذف:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 4 ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 )} .
/م4
التفسير:
4 - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
الرمي: معروف ،يقال: رمى بالحجر في الماء ،أي: قذف به ،ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الإنسان كالزنا والسرقة ،والرمي هو القذف ،والسياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة .
المحصنات: العفيفات الحرائر البالغات والعاقلات المسلمات ،وأشهر معاني الكلمة: العفيفات المنزهات عن الزنا .
وأصل الإحصان: المنع ،والمحصن – بالفتح – يكون بمعنى: الفاعل والمفعول ،وهي إحدى الكلمات الثلاث اللاتي جئن نوادر .يقال: أحصن فهو محصن ،وأسهب فهو مسهب ،وأفلج – إذا افتقر – فهو مفلج ،الفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء .
والذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ،ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم ،فاجلدوهم ثمانين جلدة ،على قذفهم أعراض الناس دون وجه حق .
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا .
وردوا شهادتهم ،ولا تقبلوها في أي واقعة كانت لظهور كذبهم .
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
الخارجون عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات .
فالإنسان إذا رأى منكرا ولم يكن معه شهود ،وجب أن يسكت سترا على الآخرين ،وحفاظا على سلامة المجتمع ،حتى لا يوقع الناس في شك وحيرة وبلبلة .
والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة ،كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه ،وعدم التحرج من الإذاعة به51 .
قال السيوطي في: ( الإكليل )
في هذه الآية تحريم القذف ،وأنه فسق ،وأن القاذف لا تقبل شهادته ،وأنه يجلد ثمانين جلدة ،إذا قذف محصنة أي عفيفة ،ومفهومه: أنه إذا قذف من عرفت بالزنا لا يحد للقذف ،ويصرح بذلك قوله: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء .وفيها أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة رجال لا أقل ،ولا نساء ،وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين ،واستدل بعموم الآية من قال: يحد العبد أيضا ثمانين ،ومن قال: يحد قاذف الكافر ،والرقيق ،وغير البالغ ،والمجنون ،وولده .
واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحد لنفسه ،لأنه لم يرم أحدا ،واستدل بها من قال: إن حد القذف من حقوق الله تعالى ،فلا يجوز العفو عنه .1 ه52 .
وقال ابن تيمية:
وقوله تعالى: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا .نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم ،واحدا كانوا أو عددا ،بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل ،لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير ،وكان الذين قذفوا عائشة عددا ،ولم يكونوا واحدا لما رأوها قدمت في صحبة صفوان بن المعطل ،بعد قفول العسكر ،وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فقدت ،فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ،ولم تكن فيه فلما رجعت لم تجد أحدا فمكثت مكانها ،وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش ،فلما رآها أعرض بوجهه عنها ،وأناخ راحلته حتى ركبتها ،ثم ذهب إلى العسكر ،فكانت خلوته بها للضرورة ،كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة ،مثلما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة ،وقصة عائشة .
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم ،مجتمعين ولا متفرقين ،ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور ،فإنه كان من جملتهم مسطح ،وحسان ،وحمنة ،ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد شهادة أحد منهم ،ولا المسلمين بعده ،لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها ،ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن ،وهؤلاء مازالوا مسلمين ،وقد نهى القرآن عن قطع صلتهم .
من أحكام الآية ما يأتي:
1 – أجمع الفقهاء على أن حكم الآية غير مقصور على قذف الرجال للنساء ،بل إنه حكم شامل ،سواء كان القذف من الرجال أو النساء ،للرجال أو النساء .
2 – هناك شروط لا بد من استيفائها في القاذف ،والمقذوف ،وفعلة القذف .قال القرطبي: للقذف شروط عند العلماء تسعة:
شرطان في القاذف ،وهما: العقل ،والبلوغ ،لأنهما أصل التكليف ،إذ التكليف ساقط دونهما .
وشرطان في المقذوف به ،وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد وهو الزنا واللواط ،أو بنفيه عن أبيه دون سائر المعاصي .
وخمسة في المقذوف ،وهي: العقل ،والبلوغ ،والإسلام ،والحرية ،والعفة عن الفاحشة التي رمى بها ،كان عفيفا عن غيرها أولا ،وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف ،وإن لم يكونا من معاني الإحصان ،لأجل أن الحد إنما وضع للزجر عن الأذى بالمضرة الداخلة على المقذوف ،ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ53 .
3 – اختلف العلماء في حد القذف ،فقال بعضهم: هو حق الله تعالى ،فتقوم شرطة الدولة ومحكمتها بتنفيذه ،سواء أطالب به المقذوف أم لم يطالب به ،وهذا هو قول ابن أبي ليلى .
وهو من حق الله تعالى ،ولكن للمقذوف فيه حق من حيث دفع العار عنه عند أبي حنيفة وأصحابه .
وذهب الشافعي ،والأوزاعي إلى أنه إذا ثبتت الجريمة على أحد وجب أن يقام عليه الحد ،ولكن يتوقف رفع أمره إلى الحكام على إرادة المقذوف ومطالبته ،فهو من هذه الجهة من حقوق العباد .
قال القرطبي:
اختلف العلماء في حد القذف ...هل هو من حقوق الله ،أو من حقوق الآدميين ،أو فيه شائبة منهما ،الأول: قول أبي حنيفة ،والثاني: قول مالك ،والشافعي ،والثالث: قول بعض المتأخرين .
وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام ؛أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ،ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ،وينشطر فيه الحد بالرق كالزنا .
وإن كان حقا للآدمي ؛فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ،ويسقط بعفوه ،ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف .
4 – إذا ثبت عن رجل أنه ارتكب القذف ،فإن الشيء الوحيد الذي ينقذه من الحد ،هو شهادة أربعة شهداء في المحكمة بأنهم قد رأوا المقذوف يزني بفلانة54 .
5 – من لم يستطع أن يقدم للمحكمة أربعة شهود يؤيدون قوله ،فقد حكم عليه القرآن بثلاثة أحكام هي:
( أ ) أن يجلد ثمانين جلدة .
( ب ) ألا تقبل له شهادة أبدا .
( ج ) ثبوت الفسق عليه .
6 – مرتكب القذف بدون شهادة الشهود فاسق ،ولو كان صادقا في حد ذاته ،لأنه أشاع التهم وبلبل المجتمع ،بدون دليل حاسم يخرج الناس من الشك إلى اليقين ،ولو سكت وستر لكان أولى به وأفضل .
7 – يرى فقهاء الحنفية في حد القذف ،أن يكون ضرب القاذف أخف من ضرب الزاني ،لأن الجريمة التي يعاقب فيها ،ليس كذبه فيها بمتيقن على كل حال .