{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا} كان السبب في كفر من كفر ، و زيغ من يزيغ ، هو اغترارهم في هذه الحياة الدنيا بكثرة المال ، و عزة النفر ، و قوة العصبية ، مما جعلهم يبغون على الناس ، و يبغون على أنفسهم ، فتطمس مسالك النور إلى قلوبهم ، و إنه لا شيء يدلي بالنفس فتعمى عن الإدراك أكثر من الغرور ، و لذلك ذكر سبحانه و تعالى أن هذه الأموال و أولئك الأولاد و إن كانوا العصبة أولى القوة لن تغني عنهم شيئا . و قد أكد القول سبحانه في موضعين في قوله:{ إن الذين كفروا} و بهذا يؤكد سبحانه وقوع الكفر منهم ، و يؤكد النفي سبحانه في قوله:{ لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا} إذ نفى ب:"لن "، فالخبران مؤكدان:الإثبات و النفي ، فكفرهم و عدم نفع أعراض الدنيا مؤكدان ، و كأن مجرى القول هكذا:غرتهم أماني الدنيا بالأموال و الأولاد فكفروا كفرا مؤكدا مع أنه من المؤكد أنها لن تنفعهم بأي نفع ، و لن يكون فيها ما يغني عن رحمة الله التي حرموها بسبب كفرهم المؤكد .
و هنا بعض إشارات بيانية منها قوله:{ لن تغني عنهم أموالهم} فقد قال بعض المفسرين:إن معناها لن تدفع عنهم من عذاب الله شيئا . فتغني معناها تدفع ، و الدفع المنفي هو منع العذاب ، و لكن كلمة تغني لا تدل على معنى الدفع إلا على سبيل المجاز ، الذي يشرح له و يقويه قوله تعالىا:{ من الله} و "من"هنا بمعنى البدلية ، و المعنى يكون على هذا:لا تكون الأموال و الأولاد مغنية أي غناء و نافعة أي نفع بدل رحمة الله تعالى و قدرته و إرادته و نفعه لعباده ، فالغاية أن الأولاد و الأموال لا تجلب رحمة بدل رحمة الله تعالى و نفعه لعباده شيئا من الغناء أو النفع .
ثم قوله في نفي نفع الأولاد بعد نفي نفع الأموال{ و لا أولادهم} إشارة إلى أن قوة النفع بمقتضى الفطرة و العادات الجارية في الأولاد أكثر ، و لذا أكد النفي فيه بعد تأكيده أولا بتكرار "لا"كأن نفي نفع الأموال أسهل قبولا من نفي نفع الأولاد ، و لذا زاده توكيدا بعد توكيد ، و إن أولئك الكافرين إذا كانوا قد حرموا نفع الأموال و الأولاد ، و لم يستبدلوا برحمة الله شيئا ، فلهم مع ذلك عذاب شديد ، و لذا قال سبحانه بعد ذلك:
{ وأولئك هم وقود النار}الإشارة في قوله:{ وأولئك}إلى أولئك الكافرين الذين غرهم غرور الأموال والأولاد فضلوا لفرط اعتزازهم بسلطان المال والعصبية ،وفي الإشارة إليهم وهم موصوفون بالكفر المؤكد الذي لا سبيل إلى الشك في ولا الريب بيان ان السبب في العقاب الذي ينزله الله بهم هو هذا الكفر الذي دفع إليه الغرور والاعتزاز بغير الله وبغير الحق .والجملة السامية{ وأولئك هم وقود النار}دالة على عقابهم الشديد يوم القيامة .وقد أكد الخبر بثلاثة مؤكدات:
أولها:الإشارة إلى البعيد ب{ أولئك}الدالة على غلوهم في الكفر ،وإيغالهم فيه ،وكلما قوى المسبب ، وكلما اشتدت الجريمة اشتد العقاب ،فهي مثلة للجزاء .
وثانيهما:ذكر ضمير الفصل"هم"،فهو ،يؤكد ؛إذ فيه تكرار لذكر الموضوع الذي يرد عليه الحكم ، وكل تكرار فيه تأكيد فوق ما يدل عليه من الاختصاص .
وثالثهما:التعبير عن العقوبة النارية التي تنزل بهم ،بأنهم يكونون وقود النار ؛فإن الوقود هو الحطب الذي تحرق به النار ،وأصله من وقدت النار تقد إذا اشتعلت ،والمصدر الوقود ،وبالفتح ما يكون به الاتقاد والاشتعال .والمعنى على هذا أن الكافرين يكونون وقود النار ؛أي أن النار يشتد اشتعالها فيهم حتى كأنهم هم مادتها التي بها تتقد وتشتعل .وقرئ{ وقود}{[454]} ،وهذا يكون فيه مبالغة في شدة احتراقهم ،أي أنهم يحترقون بالنار ويسجرون فيها كأنهم الاشتعال لا مادة الاشتعال ،ولا من يكوى بهذا الاشتعال .
وإن هذا العقاب هو الغرور ينتظر الكفار جميعا ،وإن حال منكري الإسلام في الإنكار والجحود والغرور بالمال والولد ،والعزة بالنفر والعصبية ،كحال من سبقوهم ،ولذا ينزل ما نزل بأولئك ؛ولهذا قال سبحانه وتعالت آياته:{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم} .