ولذلك ذكر لأولي الألباب أوصافا أخرى لهم:أولها نوه إليه سبحانه بقوله{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} .
ذكر الله تعالى استحضار عظمته والإحساس بجلاله ، واستشعار النفس بنعمه ، وقد يدخل هذا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"{[647]} فذكر الله يتضمن كل معاني العبودية والإحساس بالألوهية و النعم التي أسبغها على خلقه ظاهرة وباطنة ، و ذكر الله لب كل عبادة ، و غاية كل نسك ، لذلك قال الله تعالى:{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر و لذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون45} [ العنكبوت] وقد وصف الله تعالى أولي الألباب الذاكرين بأنهم يذكرون الله تعالى في كل أحوالهم ، فهم يذكرونه قائمين ، وقاعدين ، وهم على جنوبهم ، فقوله تعالى:{ قياما وقعودا وعلى جنوبهم}إشارة إلى أن الذكر يكون في عامة أحوال الإنسان في الحياة ، وظن بعض المفسدين أن المراد بالذكر الصلاة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين:"صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب"{[648]} والحق ان الذكر أعم من الصلاة ، وأن الصلاة الحقيقية التي تثمر ثمراتها ضرب من ضروبه ، وكل العبادات من مسالكه وقوله تعالى:{ قياما وقعودا مصدران وضعا موضع الوصف وموقعهما في الإعراب أنهما حالان .
وذكر الله تعالى على هذا النحو من أكمل العبادات ، ولو ذكر المؤمن ربه في عامة أحواله لساد المجتمع الإنساني كله الوئام ، وما كثر الخصام ، وما امتشق الناس الحسام ، بل ما تنازع اثنان ، وفوق ذلك من يذكر الله يعلو عن آلام الحياة واضطرابها وما ينزعج له الناس ويتحيرون فيه ، ولذا قال تعالى:{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم لذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب 28}[ الرعد] .
{ ويتفكرون في خلق السموات والأرض} هذا هو الوصف الثاني بعد أوصاف أولي الألباب الذين يدركون آيات الله الدالة على جلاله وعظمته في خلقه ، والتفكر:ترداد الفكرة في النفس ، لتصل إلى أقصى م تؤدي إليه ، وقد جاء في مفردات الأصفهاني:"الفكرة قوة مطرقة للعلم ، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان ، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ، ولهذا روي:"تفكروا في آلاء الله ، ولا تفكروا في الله ، إذ كان الله منزها عن أن يوصف بصورة . ."{[649]}قال بعض الأدباء:( الفكر مقلوب عن الفرك ، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها ) .
والتفكر في السموات والأرض له ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض ، أدناها ان ننظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب وشمس وقمر وأبراج ، وما فيها من نظام بديع محكم ، وهذه هي النظرة العامة التي تكون لذوي الألباب وغيرهم ؛ لأن هذه النظرة أساس الحس وإشراق المحسوس .
والمرتبة الثانية التفكر في خلقها وأسرار وجودها ونواميسها وقوانينها ، وهذا ما يفكر فيه علماء الكونيات الذين يعرفون ما اشتمل عليه الكون من قوى وما او دعها الخالق من إجرام وقوانين لسيرها .
المرتبة الثالثة وهي أعلاها ، وهي النظرة التي تتجه إلى الخالق من وراء المخلوق ، فيتدبر الكون وما فيه ليدرك عظمة المبدع ، فيتعرف من جمال الصنعة جلال الصانع ، وهذا النوع هو المذكور في هذه الآية وهو أعلى مراتب العبادة ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:"لا عبادة كالتفكر"{[650]} وقد كان بعض الصحابة يقول:"إن ضياء الإيمان التفكر".
وإن هذا النوع الأخير من التفكر يجعل القلب يخضع واللسان يخشع فينطق مستشعرا عظمة الله قائلا:{ ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} .
تلك الضراعة التي بدت على الألسنة هي أولى ثمرات التفكر ، لقد وصلوا بتفكيرهم إلى إدراك ربهم فقالوا( ربنا ) ونادوه سبحانه بذلك النداء الخاضع الضارع الشاكر لنعمائه ، وقد وصلوا بتفكيرهم وتدبرهم إلى أن هذا الكون لا يمكن ان يخلق باطلا ، أي لا يكون لغير غاية ، ولا لغير حكمة ، فمعنى البطلان هنا العبث وعدم الغاية وغنهم ليعلمون ان ذلك مستحيل على الله تعالى ، ولذا أردفوا هذا بقولهم( سبحانك ) ، أي تنزهت ذاتك وتقدست ، وبذلك ارتفعوا إلى مقام التقديس وهو كمال العبودية والألوهية ، ثم اعترتهم وقد وصلوا إلى هذا النوع من العلم خشية العلماء ، مصدقا لقوله تعالى:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور28}[ فاطر] ، ولذلك غلب عليهم الخوف من عذاب الله تعالى فقالوا مرتبين على تفكرهم ما أدى إليه:{ فقنا عذاب النار} فهذه ضراعة إلى الله تعالى ان يقيهم عذاب النار ، والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين:أولهما- ان يوفقهم لتجنب ما لا يرضيه ، والثاني- أن يغفر لهم ما أفرطوا في جنبه سبحانه وتعالى .
وقد كان ترتيب الخوف على التفكر له موضعه لأن نهاية التفكر هو الخوف ؛ إذ ينتهي إلى أعلى درجات الشعور بالمهابة لله تعالى ، وهو يجعل المؤمن يستصغر حسناته ، ويستكثر سيئاته ، وغن الصوفية الحق يبالغون في التفكر ، حتى إنهم يفضلونه على صلوات النفل فهو من أفضل مقامات العبودية .