/م190
إِنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب ،المبثوث في كل ناحية من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إِلى نفسه فؤاد كلّ لبيب وعقله شدّاًيجعله يتذكر خالقه ،في جميع الحالات ،قائماً أو قاعداً ،وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه ،ولهذا يقول سبحانه: ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ) أي أنّهم مستغرقون كامل الاستغراق في التفكير الحيوي حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه ،ومبديه .
ولقد أُشيرفي هذه الآيةإِلى الذكر أوّلا ،ثمّ إِلى الفكر ثانياً ،ويعني ذلك أن ذكر الله وحده لا يكفي ،إنّ الذكر إِنّما يعطي ثماره القيّمة إِذا كان مقترناً بالفكر ،كما أنّ التفكر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يوصل إِلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية التذكر ،وبالتالي لا يقرن الفكر بالذكر .فما أكثر العلماء الذين يقفونفي تحقيقاتهم الفلكية والفضائيةعلى مظاهر رائعة من النظام الكوني البديع ،ولكنّهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إِلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص ،بل ينظرون إِليها من الزاوية العلمية المجردة البحتة ،فإِنّهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتب عليها من النتائج التربوية والآثار الإِنسانية ،ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاماً ليقوى به جسمه فلا يكون لما يأكله أي أثر في تقوية فكره وروحه .
إنّ التفكير في أسرار الخليقة ،وفي نظام السماء والأرض يعطي للإِنسان وعياً خاصّاً ويترك في عقله آثاراً عظيمة ،وأوّل تلك الآثار هو الانتباه إِلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه ،فالإِنسان الذي يلمس الهدفية في أصغر أشياء هذا الكون كيف يمكنه أن يصدق بأنّ الكون العظيم بأسره مخلوق من دون هدف ،ومصنوع من دون غاية ؟
لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتة معينة للاحظنا أهدافاً واضحة فيها ،وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفر ،وصمامات ،وأبواب وبطون ،فكلّ شيء فيه مخلوق لغاية ،ومجعول لهدف ،وكذا الحال في طبقات العين ،بل وحتى الأجفان ،والأظافر ،كل واحد منها يؤدي دوراً ،ويحقق غاية ،فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جداً بالنسبة للكون العظيم أهداف واضحة وغايات ملحوظة ،ولا يكون لمجموعه المتمثل في الظاهرة الكونية الهائلة العظيمة أي هدف مطلقاً ؟( ربّنا ما خلقت هذا باطلا ) .
إِنّ العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إِلاّ أن يقولوا بخشوع هذه الجملة: ( ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم ،وهذا الكون الذي لا يعرف له حدّ ،وهذا النظام المتقن البديع إلا على أساس الحكمة والمصلحة ،ولهدف صحيح ،فكل هذا آية وحدانيتك ،وكل هذا ينزّهك عن اللغو والعبث .
إِن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفية في الخليقة يتذكرون أنفسهم فوراً ،وكيف يعقل أن يكونوا وهم ثمرة هذا الموجود نفسه وهذا الكون بالذاتقد خلقوا سدى ،أو جاؤوا إِلى هذه الحياة عبثاً ،وأنّه ليس هناك من هدف سوى تربيتهم وتكاملهم !!
إِنّهم لم يأتوا إِلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أيّاماً سرعان ما تفنى وتنقضي ،فذلك أمر لا يستحق كلّ هذا العناء والتعب كما لا يليق بمكانة الإِنسان ولا يتناسب مع حكمة الله العليا ،بل هناك دار أخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها جزاء أعمالهم ،إن خيراً فخير ،وإِن شرّاً فشر ،وفي هذه اللحظة ينتبهون إِلى مسؤولياتهم ،ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنبوا عقابه ،ولهذا يقول:( فقنا عذاب النّار )
/خ194