( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) والذكر في الآية على عمومه لا يخص بالصلاة والمراد به القلوب وهو إحضار الله تعالى في النفس وتذكر حكمه وفضله ونعمه في حال القيام والقعود والاضطجاع وهذه الحالات الثلاث التي لا يخلو العبد عنها تكون فيها السماوات والأرض معه لا يتفارقان والآيات الإلهية لا تظهر من السماوات والأرض إلا لأهل الذكر .فكأين من عالم يقضي ليله في رصد الكواكب فيعرف منها ما لا يعرف الناس ويعرف من نظامها وسننها وشرائعها ما لا يعرف الناس ، وهو يتلذذ بذلك العلم ولكنه مع هذا لا تظهر له هذه الآيات لأنه منصرف عنها بالكلية .
ثم إن ذكر الله تعالى لا يكفي في الاهتداء إلى الآيات ولكن يشترط مع الذكر التفكير فيها فلا بد من الجمع بين الذكر والفكر فقد يذكر المؤمن بالله ربه ولا يتفكر في بديع صنعه وأسرار خليقته ولذلك قال ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) .
أقول:قد يتفكر المرء في عجائب السماوات والأرض وأسرار ما فيهما من الإتقان والإبداع والمنافع الدالة على العمل المحيط والحكمة البالغة والنعم السابغة والقدرة التامة وهو غافل عن العليم الحكيم القادر الرحيم الذي خلق ذلك في أبدع نظام ، وكم من ناظر إلى صنعة بديعة لا يخطر في باله صانعها اشتغالا بها عنه ، فالذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض هم غافلون عن خالقهما ذاهلون عن ذكره يمتعون عقولهم بلذة العلم ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عز وجل فمثلهم كما قال الأستاذ الإمام:كمثل من يطبخ طعاما شهيا يغذي به جسده ولكنه لا يرقى به عقله ، يعني أن الفكر وحده وإن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر ، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر ، فيا طوبى لمن جمع بين الأمرين واستمتع بهاتين اللذتين ؛ فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ونجوا من عذاب النار في الآخرة ، فتلك النعمة التي لا تفضلها نعمة ، واللذة التي لا تعلوها لذة ، لأنها هي التي يهون معها كل كرب ، ويسلسل كل صعب ، وتعظم كل نعمة ، وتتضاءل كل نقمة ، تلك اللذة التي تتجلى مع الذكر في كل شيء فيكون في عين ناظره جميلا ، وفي كل صوت فيكون في سمع سامعه مطربا فلسان حال الذاكر ، ينشد في هذا التجلي قول الشاعر الذاكر:
من كل معنى لطيف أجتلي قدحا *** وكل حادثة في الكون تطربني
فإذا تحول التجلي عن جمال الأكوان ، وتفكر الذاكر في تقصيره من حيث هو إنسان ، عن شكر المنعم عليه بكل شيء يتمتع به وعن القيام بما يصل إليه استعداده من مغفرته استولى عليه سلطان الجلال فتعلو همته في طلب الكمال فينطلق لسانه بالدعاء والثناء ، وقلبه بين الخوف والرجاء .
( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) أي يقول الذين يجمعون بين التذكر والتفكير ، معبرين عن نتيجة جمع الأمرين ، والتأليف بين المقدمتين:ربنا ما خلقت هذا الذي نراه من العوالم السماوية والأرضية باطلا ، ولا أبدعته وأتقنته عبثا ، سبحانك وتنزيها لك عن الباطل والعبث بل كل خلقك حق مؤيد بالحكم ، فهو لا يبطل ولا يزول ، وإن عرض له التحول والتحليل والأفول ، ونحن بعض خلقك لم نخلق عبثا ، ولا يكون وجودنا من كل وجه باطلا ، فإن فنيت أجسادنا ، وتفرقت أجزاؤنا ، بعد مفارقة أرواحنا لأبداننا ، فإنما يهلك منا كوننا الفاسد ، ووجهنا الممكن الحادث ، ويبقى وجهك الكريم ؛ ومتعلق علمك القديم .يعود بقدرتك في نشأة أخرى ، كما بدأته في نشأة الأولى ، فريق ثبتت لهم الهداية ، وفريق حقت عليهم كلمة الضلالة ، فأولئك في الجنة بعملهم وفضلك ، وهؤلاء في النار بعملهم وعدلك ، ( فقنا عذاب النار ) بعنايتك وتوفيقك لنا ، واجعلنا مع الأبرار بهاديتك إيانا ورحمتك بنا .
قال الأستاذ الإمام في تفسير"ربنا ما خلقت هذا باطلا "الخ:هذا حكاية لقول هؤلاء الذين يجمعون بين تفكرهم وذكر الله عز وجل ويستنبطون من اقترانهما الدلائل على حكمة الله وإحاطة علمه سبحانه بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه حق الربط .وقد اكتفى بحكاية مناجاتهم لربهم عن بيان نتائج ذكرهم وفكرهم ، فطي هذه وذكر تلك من إيجاز القرآن البديع وفيه تعليم المؤمنين كيف يخاطبون الله تعالى عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه وبدائع خلقه ، كأنه يقول:هذا هو شأن المؤمن الذاكر المتفكر يتوجه إلى الله في هذه الأحوال ، بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال ، وكون هذا ضربا من ضروب التعليم والإرشاد ، لا يمنع أن بعض المؤمنين قد نظروا وذكروا وفكروا ثم قالوا هذا أو ما يؤدي معناه ، فذكر الله حالهم وابتهالهم ، ولم يذكر قصتهم وأسماءهم ، لأجل أن يكونوا قدوة لنا في عملهم ، وأسوة في سيرتهم ، أي لا في ذواتهم وأشخاصهم ، إذ لا فرق في هذا بيننا وبينهم .
قال:أما معنى كون هذا الخلق لا يكون باطلا فهو أن هذا الإبداع في الخلق ، والإتقان للصنع ، لا يمكن أن يكون من العبث والباطل ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط ، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم ، ودقائق هذا الصنع ، وكلما ازداد تفكرا ، ازداد علما ، حتى أنه لا حد يعرف لفهمه وعلمه ، لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلا ثم يذهب سدى ، ويتلاشى فيكون باطلا ، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياة لا نهاية لها ، وهي الحياة الآخرة التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله ، ولهذا وصل الثناء بهذا الدعاء ، ومعناه:جنبنا السيئات ، ووفقنا للأعمال الصالحات ، حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار ، وهذه هي نتيجة فكر المؤمن .
قال:ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر مع الذكر إلى بقاء العالم واستمراره لأن نظامه البديع لا يمكن أن يجعله العليم الحكيم باطلا ( أي لا في الحال ولا في الاستقبال ) وبعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار في الحياة الثانية ، يتوجهون إليه قائلين( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته )