{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ( 116 ) إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ( 117 ) لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ( 118 )} .
/م116
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر الشرك به ، والمراد بالشرك أن يعبد مع الله تعالى غيره ، فالشرك في ذاته غير قابل للغفران ، لأنه إلغاء لمعنى الوحدانية التي هي سمة الإسلام وروح العبادة ومعناها . وإنه يدخل في الإشراك بالله إنكار رسالة الرسل ، بعد قيام الأدلة القطعية لأن ذلك تحكيم للهوى ، وإبطال للغاية من الوحدانية إذ هي طريق العبادة الصحيحة ، كما قال تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( 56 )( الذاريات ) .
فإذا كانت العبادة الصحيحة هي ثمرة الخلق والتكوين والخضوع المطلق لسلطان الله تعالى ، فإن العبادة في القول والعمل ومعرفة الكون لا تكون إلا برسالة الله تعالى وحده إلى الإنسان ، فمن كفر بهذه الرسالة فقد ألغى معنى الوحدانية .
والله تعالى لا يغفر الشرك ، وكان تعبيره سبحانه بقوله:{ إن الله لا يغفر} للإشارة إلى أنه لا يغفر ذات الشرك ، ولكن يغفر للمشرك إذ خلعه وتاب عنه ، ودخل فيما يدعو إليه الرسل ، كما قال تعالى:{ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف( 38 )}( الأنفال ) .
ولذلك أضيف نفي الغفران إلى الشرك لا إلى من تلبس به ، فإن الغفران يلحقه إذا خلعه .
وما دون الشرك وإنكار الرسالة من العاصي ، يكون تحت غفران الله سبحانه وتعالى ، ويتعلق بمشيئته ، ومشيئته سبحانه قد أشار إلى بعض ما تتعلق به من أعمال العباد ، ومنها التوبة ، فإن التوبة النصوح تخلع المؤمن من ذل المعصية إلى عزة القبول ، ومنها كثرة الحسنات وقلة السيئات ، فإن الله تعالى يقول:{. . .إن الحسنات يذهبن السيئات . . .( 114 )}( هود ) . فمن رجحت كفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة ، قد وعدنا رب العالمين بأنه يغفر له ، ومشيئة الله تعالى لا حدود لها ، ولكن منها ما بينه .
وقد قالوا في سبب نزول هذه الآية:إنه جاء شيخ من العرب إلى النبي صلى الله عليه سلم ، فقال:إني شيخ منهمك في الذنوب ، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته ، وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه وليا ، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله تعالى ، ولا مكابرة له وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا ، وإني لنادم مستغفر ، فما ترى حالي عند الله ؟ فنزلت هذه الآية{[806]} .
وفيها ما يدل على أن الله يغفر للتائبين المستغفرين الخارجين من نطاق المعصية إلى سعة الفضيلة ، وإن ذلك لا يمنع غفران الله تعالى لمن كانت له معاصي وطاعات ، والمعاصي لم تغلب عليه ولم تفسد نفسه ، بل استمر قلبه مضيئا بنور الإيمان والحق .
{ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا}قد يسأل سائل:إذا كانت التوبة تجب ما قبلها ، والإيمان يجب ما قبله ، فإذا انخلع الشرك ، وحلت محله عقيدة الوحدانية وغفر الله ما تقدم من الشرك ، كما ورد النص الذي تلوناه ، فلماذا يفرق بين الشرك وغيره من المعاصي ؟ والجواب عن ذلك أن الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها ، كان الخروج منه صعبا وعسيرا ولذا قال سبحانه:{ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} .
والضلال هو السير في غير الطريق الموصل ، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة ، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوغل في الضلال ، والمشرك الذي تدرنت نفسه بالشرك قد ضل عن طريق النجاة ، وكلما استمر في سيره كان مستمرا في الضلال ، فمن يشرك بالله غيره ، فيدعي لأن له شريكا في الخلق والتكوين أو في الوجود مما يماثله ذاتا أو صفاتا ، أو يدعي أنه يستحق العبادة معه ، فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا ، ومن ضل سيجد كلما سار أبوابا من الشر ، فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع ، وتكون له حسنات بجوار السيئات ، فيكون باب المغفرة مفتوحا ، أما من أشرك بالله فقد كان في معاص مستمرة وليس له من الحسنات ما يرجح كفة الميزان لأن الشرك يقتل الحسنات قتلا ، فلا تقبل فيه طاعة .
والشرك هنا هو نقيض الوحدانية ، وهناك شرك خفي ، وهو أنه يرائي في عبادته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك"{[807]} .
ولا نرى أن هذا النوع من الشرك داخل في موضوع الشرك الذي ينفى عنه الغفران ، لأن هذا النوع يقتل ما في العبادة من خير ، وقد يكون للمرائي خير آخر ، كالبر بأسرته والعطف على الجيران . والتعاون الاجتماعي الخالص .
وقد بين سبحانه صورا من ضلال المشركين وهي:
1- عبادة من لا يتصور عبادته عاقل مدرك إدراكا خاليا من التأثر بالباطل .
2- ومنها خضوعهم المطلق للشيطان .
3- ومنها توهم التقرب بما لا يتصور عقلا أنه مقرب ، كتقطيع آذان الإبل والبقر والغنم وتغيير خلق الله تعالى فيها ، ولذلك قال تعالى:{ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا}