{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا116 إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا117 لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا118 ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا119 يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا120 أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا121 والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا122} .
بين الله لنا في الآية التي قبل هذه الآية أن جهنم هي مصير من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ، وكلا هذين الأمرين كان يكون في زمن الرسول ظاهرا جليا بمثل ما فعل طعمة من ترك صحبة النبي والمؤمنين ، وموالاة أعدائهم من المشركين ، كما يظهر ذلك في عصره وغير عصره في كل من بلغته دعوته وتبين له الهدى فيها فتركها وعادى أهلها ووالى أعدائهم ، فإن مشاقة ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مشاقة له .ولكن وراء ذلك أنواعا من الكفر والضلال لا يصدق على كل واحد منها أنه مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين ، كما بينا ذلك في تفسير تلك الآية وقلنا:إن كل صنف من أصناف الضالين يوليه الله ما تولى ويوجهه إلى حيث توجه بكسبه واجتهاده لأن الله تعالى وكل أمر النوع الإنساني إلى نفسه ، إلا أن يختص من شاء من الناس برحمة من لدنه .وبقي علينا أن نعرف ما يجوز أن يغفره الله تعالى للناس من أنواع ضلالهم وخطاياهم ومالا يغفره لهم البتة فإن هذا مما يحتاج إليه في هذا المقام فبينه تعالى بقوله:{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقد تقدم هذا النص بعينه في سياق آخر من هذه السورة ولم يمنع ذلك من إعادته هنا لأن القرآن ليس قانونا ولا كتابا فنيا فيذكر المسألة مرة واحدة يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها وإنما هو كتاب هداية ومثاني يتلى لأجل الاعتبار والاستبصار تارة في الصلاة وتارة في غير الصلاة ، وإنما ترجى الهداية والعبرة بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يوجه النفوس إليها أو يعدها ويهيؤها لقبولها ، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية من تلك المعاني ، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة في النفوس إلا بالتكرار ، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم ، بل قال بعض علماء الاجتماع:إن نشر التجار للإعلانات التي يمدحون بها سلعهم وبضائعهم ويدلون الناس على الأماكن التي تباع فيها هو عمل بهذه القاعدة فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء ولو من المتهم في مدحه لا بد أن يؤثر فيه .
وقال الأستاذ الإمام:تقدم صدر هذه الآية في هذه السورة وتتمتها هناك{ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما مبينا} وقد تقدمها هنالك إثبات ضلال أهل الكتاب وتحريفهم ودعوتهم إلى الإيمان بما أنزله الله على نبيه مصدقا لما معهم ، فقد بين لهم أن اتباع الرسول فيما جاء به والتسليم له درجاتفمنها ما تغلب النفوس على مخالفته نزوات الشهوة وثورات الغضب ثم يعود صاحبه ويتوب ، فهذا مما قد تناله المغفرة ، وأما التوحيد الذي هو أساس الدين فلا يغفر الميل عنه إلى ضرب من ضروب الشرك .والآيات التي قبل هذه الآية تفيد أن السياق هنا كالسياق هناك فأعادها لذلك المقصد وهو بيان أن مشاقة الرسول ومخالفته إنما تكون بالخروج عن التوحيد والوقوع في الشرك لأن التوحيد روح الدين وقوامه ، فالمناسبة هنا تقتضي أن يعاد هذا المعنى ، وهي إعادة تنادي البلاغة بطلبها ولا تعد من التكرار الذي قالوا إنه ينافي البلاغة ، فإن هذا إنما يتحقق إذا كان المخاطبون وقد فهموا منك معنى تمام الفهم كما تريد ثم ذكرته لهم بعبارة لا تزيدهم فائدة ولا تأثيرا جديدا ولا تمكينا للمعنى .وأما ما يفيد شيئا من هذا الذي ذكرناه فهو الذي تقتضيه البلاغة اه .
أقول:إن هذا يقال على تقدير كون القرآن يوجه إلى كل فرد من أفراد المكلفين وأنهم جميعهم يسمعونه أو يتلونه كله ويتذكرون عند كل سياق ما يناسبه فيغيره ، وإذا أنت تذكرت أن الله تعالى يعلم أن الأمر لا يكون كذلك وأنه ربما يسمع هذا السياق الذي جاءت هذه الآية فيه من لم يكن سمع ذلك السياق الذي جاءت فيه الأخرى سواء كان ذلك في الصلاة أو غير الصلاة ، فإنك تجزم بأنه لا محل لجعل هذه الآية من التكرار الذي يفرون منه ، لأنه في هذه الحال يكون من قبيل ذكر الشاعر لمعنى من المعاني في قصيدتين يمدح في كل واحدة منهما رجلا غير الذي يمدحه في الأخرى .وعلى هذا لا يتجه قول جمهور المفسرين الذين اطلعنا على كتبهم أن هذا التكرار للتأكيدوالتأكيد تكأتهم في تعليل كل تكراروإنما نقول هذا على تقدير كون التكرار المحض منتقدا ومخلا بالبلاغة وقد علمت أنه ليس كذلك بل هو ركن البلاغة الركين الذي لا يبلغ المتكلم مراده من النفس بدونه .
وأما معنى{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهو ظاهر وتقدم في تفسير الآية السابقة ولا يصدنا ذلك أن نقول فيه شيئا هنا نرجو أن يكون مفيدا:أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه به البتة أنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه ، وقد بينا في التفسير وفي بعض مباحث المنار أن عقاب الله تعالى للمذنبين هو أثر طبيعي لذنوبهم ، وما تحدثه من الصفات القبيحة من أنفسهم ، فكما أن السكر يحدث في البدن أمراضا يتعذب صاحبها بها في الدنيا يحدث هو وغيره من الشرور والخطايا أمراضا في القلوب والأرواح يتعذب بها صاحبها في الآخرة .وكما أن قوة البدن وصحة المزاج تغلب بعض جراثيم الأمراض فلا يظهر لها تأثير مؤلم يعذب صاحبه كذلك قوة الروح بالتوحيد وصحة مزاجها بالإيمان والفضائل تغلب بعض المعاصي التي قد يلم بها المؤمن بجهالة أو نسيان ثم يتوب منها من قريب .ولكن قوة البدن لا تدفع ما يعرض للقلب فيقطع نياطه أو للدماغ فيتلفه ، وكذلك الشرك يشبه في إفساده للأرواح ما يصيب القلب أو الدماغ من سهم نافذ أو رصاصة قاتلة ، فلا مطمع في النجاة من العقاب عليه .
ذلك بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة النفس وضلال العقول فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده .والعروج إلى جوار الله تعالى بروح صاحبه ، فإن روحه تكون في الآخرة على ما كانت في الدنيا متعلقة بشركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل والله لا يقبل إلا ما كان خالصا له ، والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصا لله عبدا له وحده فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان ولا الإباق يخرجانه عن كونه عبدا لسيد واحد ، ولسيده أن يعاقبه وأن يعفو عنه ، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبدا لغيره لا قنا ولا مبعضا{ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا مسلما لرجل هل يستويان مثلا ؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} بل هم يجهلون أن شركاءهم الذين استكبروا امتيازهم عليهم بعلم أو عمل غير معتاد كبعض الأنبياء والأولياء والملوك ، كل هؤلاء عبيد أمثالهم لا ينبغي أن يكون لهم شركة ما في مقام العبادة لا بدعاء ولا نداء ، وكذلك ما استكبروا خلقه أو نفعه أو ضره كالكواكب والنار وبعض الأنهار والحيوانات .{ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم}"أولئك الذين يدعون "أي يدعونهم ويتوسلون بهم هم"يبتغون إلى ربهم الوسيلة "التي تقربهم إليه زلفى وهي التوحيد والإخلاص والعمل الصالح"أيهم أقرب "أي أقربهم وأعلاهم منزلة كالملائكة والمسيح يبتغي هذه الوسيلة إليه عز وجل"ويرجون رحمته ويخافون عذابه "وإن أعرفهم به أشدهم خوفا منه ورجاء في فضله ورحمته .ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك كما قال عز وجل فتجد الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة ، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى ، وتجد ملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء ، ويصمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكارا لهم ، وإنني أكتب هذا في ضواحي مدينة ( دلهي من أعظم مدن الهند ) وأنا أرى أصنافا من هؤلاء المشركين يجولون أمامي في مصالحهم{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} [ الزخرف:9] وإنما هؤلاء المعبودات أو الأولياء ، وسائط بيننا وبينه وشفعاء{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [ يونس:18] ولكن الله تعالى لا يقبل العبادة إلا خالصة لوجهه من كل شائبة{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ، ألا لله الدين الخالص ، والذين اتخذوا من دونه أولياء:ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون* إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [ الزمر:3] .
ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين ، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين ، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين ، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة ، وقد يسمونها توسلا وشفاعة ، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء ، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء ، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء ، ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله ونداؤه لقضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، لكفى ذلك عبادة له هو وشركا بالله عز وجل ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الدعاء هو العبادة ){[596]} رواه أبو داود والترمذي وقال:حسن صحيح وفي رواية ضعيفة ( الدعاء مخ العبادة ){[597]} و الأولى تفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء ، وهو حصر على سبيل المبالغة كأن ما عدا الدعاء لا يعد عبادة بالنسبة إليه .وقد قالوا إن هذا الحديث من قبيل حديث ( الحج عرفة ){[598]} أي هو الركن الأهم الذي لا يعتد بغيره عند تركه ، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جدا يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولا سيما عند الشدة ، وأن ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان فكله أو جله تعليمي تكليفي يفعل بالتكلف وبالقدوة وقد يكون في الغالب خاليا من الشعور الذي به يكون القول أو العمل عبادة وهو الشعور بالسلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العادية .حتى أن الأدعية التعليمية في جميع الأديان قد تكون خالية من معنى العبادة وروحها الذي ذكرناه سواء دعي بها الله وحده أو دعي بها غيره معه أو وحده ، ولا سيما الأدعية الراتبة في الصلوات الموقوتة أو في غير الصلوات ، فإن الحافظ لها يحرك بها لسانه في الوقت المعين وقلبه مشغول بشيء آخر ، إنما العبادة جد العبادة في الدعاء الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب وقرارة النفس ، عند وقوع الخطب ، وشدة الكرب ، والشعور بشدة الحاجة إلى الشيء ، واستعصاء الوسائل إليه ، وتقطع الأسباب دونه ، ذلك الدعاء الذي تسمعه من أصحاب الحاجات ، وذوي الكربات ، وعند حدوث الملمات ، وفي هياكل العبادات ، ولدى قبور الأموات ، ذلك الدعاء الخالص الذي يغشاه جلال الإخلاص ، ويمثل كل حرف من حروفه معنى الخشوع التام ، وناهيك بما يفجره هذا الخشوع ، من ينابيع الدموع ، ذلك الدعاء الذي يستغله سدنة الهياكل ، ويستثمره خدمة المقابر ، ويضن به ويدافع عنه رؤساء الأديان ، لأنه أشد أركان رياستهم على العوام ، ومنهم من يضن به ، لأنه لا يرى للجمهور الجاهلين غنى عنه ، ولا يرى في حيز الإمكان استبدال التوحيد به ، على أن الموحدين أعلى إخلاصا ، وأشد حبا لله وخشوعا ،{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله}{[599]} [ البقرة:165] .
{ ومن يشرك بالله} أي ومن يشرك بالله أحدا أو شيئا فيدعوه معه ، ويذكر اسمه مع اسمه ، أو يدعوه من دونه ، ملاحظا في دعائه أنه يقربه إليه زلفى ، أو غير ملاحظ ذلك ولا متذكر له ، وإن كان بحيث لو ذكر به لذكره ، وهذا النوع من الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقواها لأن الاعتقاد فيه يكون وجدانيا حاكما على النفس مستعبدا لها ، ودونه الشرك المبني على الفكر والنظر الذي يحاجك صاحبه بالشبهات المشهورة المنتزعة من تشبيه الخالق بالمخلوقين ، وقياسه على الملوك الظالمين ، كقولهم:إن الإنسان المذنب الخاطئ والضعيف المقصر ، لا يليق به أن يخاطب الإله العظيم كفاحا ، ولا أن يدعوه مباشرة ، بل عليه أن يتخذ له وليا يكون واسطة بينه وبينه ، كما يتخذ آحاد الرعية الوسائط إلى الملوك والأمراء من المقربين إليهم ، وقد يكون صاحب هذه العقيدة النظرية مقلدا فيها بالرأي والقولالذي يسميه حجة ودليلاسليم الوجدان من تأثيرها لعدم التقليد فيها بتكرار العمل فهو لا يلابسه إلا قليلا ، وكذلك من يشرك في ربوبية الله تعالى باتخاذ بعض المخلوقين شارعين يحلون له ما يرون تحليله ، ويحرمون عليه ما يرون تحريمه ، فيتبعهم في ذلكمن يشرك بالله أي نوع من أنواع الشرك .
{ فقد ضل} عن القصد وتنكب سبيل الرشد ،:{ ضلالا بعيدا} عن صراط الهداية ، موغلا في مهامه الغواية ، لأنه ضلال يفسد العقل ويدسي النفس ، فيخضع صاحبه ويستخذي لعبد مثله ، ويخشع ويضرع أمام مخلوق يحاكيه أو يزيد عليه في عجزه ، فيطيع من لا يطاع ، ويرجو ولا موضع للرجاء ، ويخاف ولا موطن للخوف ، ويكون عبدا للأوهام ، عرضة للخرافات ، لا استقلال لعقله في إدراكه ، ولا لإرادته في عمله ، بل يكون عقله ورأيه وإرادته في تصرف بعض المخلوقات التي لا تملك له ولا لأنفسها نفعا ولا ضرا ، ولا هداية ولا غواية{ قل إني لا أملك لكم ضرا} ولا نفعا ، ولا غواية{ ولا رشدا ، قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ، إلا بلاغا من الله ورسالاته} فهذا أعلى وأعظم ما أعطاه الله تعالى للمصطفين الأخيار من عباده ، وميزهم به على سائر عباده ، وهو تبليغ رسالته ، والدعوة إلى دينه ، من غير أن يكونوا مسيطرين ولا جبارين ، ولا آلهة أو أربابا معبودين ،{ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [ الكهف:110] .
فعلم من هذا ومما بيناه من قبل في مثل هذا البحث أن سبب عدم مغفرة الله للشرك مع جواز غفران غيره يؤخذ من قاعدتين:
إحداهما:إن الجزاء في الآخرة هو بسلامة الأرواح وسعادتها أو هلاكها وشقاوتها ، هو تابع لما تكون عليه في الدنيا من سلامة الفطرة وصحة العقيدة ، ودرجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات ، وعمل الصالحات ، أو فساد الفطرة ، وخطأ العقيدة ، والتدنس بالرذيلة .
الثانية:أنَّ لِمَا يكون الناس عليه من الأمرين درجات ودركات ، أسفلها وأخسها الشرك ، وأعلاها كمال التوحيد ، ولكل منهما صفات وأعمال تناسبها ، فلو جاز أن يغفر الشرك فتكون روح صاحبه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، تجول مع الملائكة المقربين في عليين ، لكان ذلك نقضا أو تبديلا لسنة الله تعالى في خلق الناس التي ترتب عليها أن يكون منهم شقي وسعيد ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، بعضهم فوق بعض بطبعه وصفاته الروحية كما يكون الأخف من الغازات والمائعات فوق الأثقل بطبعه ، سنة الله التي لا تبديل لها ولا تغيير .