{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} عجبا لأمر هؤلاء المنافقين ، إنهم يسارعون في الفتنة ويتحينون الفرص ليزرعوا الشكوك والظنون في صدور المؤمنين ، ويشيعون الأخبار على غير حقيقتها فإذا سمعوا خبرا عن أمن المسلمين أو انتصارهم ، أو عن الخوف عليهم والإشفاق من تحركاتهم ، أسرع هؤلاء المنافقون لإذاعة الشائعات ، وأظهروها وتحدثوا بها قبل أن يقفوا على حقيقتها ، وقد يكون في ذلك ضرر بالإسلام والمسلمين ، ولكنهم لا يبالون ، بل ربما كان ذلك هو ما يبتغون .
وقال بعض المفسرين إن ضعاف المسلمين كانوا يفعلون ذلك أيضا ، فقد كان بعضهم يفشي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، دون إذن في ذلك ، ويحسبون أنهم لا يخطئون فيما يفعلون ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون .
وسواء أكان ذلك من المنافقين أم من ضعاف المسلمين فهو خطأ لا يجوز أن يحدث ، لذلك يجيء الأمر من الله تعالى بألا يسرع المسلم في الحديث بأخبار لم يتحقق منها ، ولم يتبين له صدقها من كذبها ، ولم يميز من أمرها بين النفع والضرر ، بل يجب على هؤلاء وأولئك أن يردوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وينتظروا حتى يكون عليه الصلاة والسلام ، هو الذي يتحدث به ويكشف عن صدقه ، ويبين نفعه للمسلمين أو ضرره ، وهذا الحكم ماض في كل زمان ومكان ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى ، فإنه قد ورَّث العلم لطائفة من أمته هم أولو العلم وأولو الأمر ، وأهل الفقه في الدين فيجب على المسلمين أن يردوا مثل هذه الأمور إليهم ، لأنهم إذا ردوا الأمر إليهم{ لعلمه الذين يستنبطونه منهم} أي يستخرجون معناه ، ويبينون فحواه ، فإذا الأمر معلوم ، والحق واضح لا شبهة فيه ، ولا غموض .
والاستنباط هو استخراج الماء من البئر ، فشبهت الأفكار التي تدور في خَلَد الإنسان بالماء الذي في البئر ، والعلماء يستخرجون هذه الأفكار ويكشفون عن معناها ، فيعلمون ما ينبغي أن يقال وما يجب أن يستر ويكتم فلا يشيع بين الناس .
وفي تلك الجملة دليل على جواز اجتهاد العلماء في الأمور الفقهية عن طريق القياس ، والحكم ما يبينه ذلك القياس ، ما لم يكن هناك نص من القرآن أو السنة ، وما لم يكن هناك إجماع .
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}لقد أنزل الله الكتب ، وأرسل الرسل ، وبين طريق الحق من الباطل ، والهدى من الضلالة ، والرشاد من الغواية ، وهذا فضل من الله ورحمة ، ولولا هدايتكم للعمل بما جاءت به الرسل ، وأنزلت به الكتب لاتبعتم الشيطان ، ولبقيتم على الكفر سائرين في طريق الضلال إلا قليلا منكم كانوا هم المهتدين ، أو لاتبعتم الشيطان في غالب أعمالكم ، وكان اتباعكم للرسول وللكتاب إتباعا قليلا ، ولغلبت سيئاتكم حسناتكم وفي ذلك ما فيه من الخسران ، والعياذ بالله تعالى .