المفردات:
أمر: خبر عن سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم .
الأمن: النصر .
الخوف: الهزيمة .
أذاعوا به: نشروه وأفشوه .
يستنبطونه: يستخرجون حقائقه المستورة الخفية ،ومقاصده البعيدة .
التفسير:
83- وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ...الآية .
تقدم هذه السورة ألوانا من التربية الإسلامية وآدابها ،ومن هذه الآداب: التثبت في القول ،وألا يحدث الإنسان بكل ما يسمع ،وألا ينقل الأخبار إلا بعد التيقن من صدقها .روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع "{[27]} .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة '' أن رسول الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال''{[28]} أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين .
وفي الصحيح '' من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو من الكذابين''{[29]} وقد نقل ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة ،تدعو المسلمين إلى التثبت في القول ،وعدم نشر الإشاعات ،والأراجيف ،والرجوع إلى الثقات ،وإلى أولي الأمر ؛للتثبت من الأخبار ،والتيقن من الأمور ،قبل المشاركة في إذاعتها وترويجها .
و نلمح أن بعض المنافقين ،أو بعض ضعاف النفوس ممن شهوتهم الكلام ،كانوا يرجون أخبار النصر و الأمن ،وأخبار الهزيمة و الخوف ،وهذه الأمور تسهل للعدو مهمة التجسس ،ومعرفة مواطن الضعف و القوة لدى المسلمين .
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ .
فواجب على كل مسلم أن يرد هذه الأخبار إلى أولي الحل والعقد من المسلمين ؛فإنهم هم الذين يستطيعون تقييم هذه الأخبار ،وتقدير ما إذا كان من المصلحة العامة للدولة إذاعتها أو كتمانها ،كذلك هم- باطلاعهم على خفايا الأمور- أعرف بصحة تلك الأخبار أو فسادها .
قال ابن كثير:
ونذكر هنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته{[30]} ،حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه ،فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فاستفهمه: أطلقت نساءك ؟فقال لا ، قال عمر: فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه ،ونزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ .فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .
ومعنى يستنبطونه: يستخرجونه من معادنه ،يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها{[31]}
والذين يستنبطون الحقائق هم الذين يطلعون على خفايا الأمور أو المراد بهم الذين رجعوا بهذه الأخبار- حينما سمعوها- إلى الرسول وأصحابه ،فإنهم يعرفون- عن طريقهم- ما خفي عليهم أمره من هذه الأخبار .وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً .
ولولا حفظ الله لكم ،وتثبيته لقلوبكم ؛لوقعتم فيما وقع فيه المنافقون ،وضعفاء الإيمان وذوو الغفلة ، ولولا رحمة الله بهذه الأمة ؛لضل الكثير من أبنائها ،بإتباع سبيل الشيطان ،ولكان مصيرها الضياع والانهزام ،وضعف الثقة في النفوس .
لكن من عناية الله بهده الأمة ،أن جعل فيها قلة ممتازة ،تتميز بقوة العزيمة ،وثبات الإيمان ،وعدم تصديق الأراجيف أو إذاعتها ،وهذه القلة بمثابة الأساس المتين الذي يقوم عليه البناء ويعتمد عليه ،ويصح أن يكون المراد بقوله: لا تبعتم الشيطان إلا قليلا .إلا في قليل من أعمالكم .
وبالتأمل فيما تضمنته الآية الكريمة من إرشادات حكيمة ،يتضح أن القرآن الكريم ،قد سبق جميع النظم الحربية ،في وضع أقوى الوسائل لمواجهة ما يسمى الآن: الحرب النفسية ،أو حرب الأعصاب .وهي التي تدير الحرب العسكرية .