ثم ذكر تعالى عن المنافقين نوعا آخر من مفاسدهم .وهو إظهارهم أسرارا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومبادرتهم بأخبار السرايا واذاعتها ،بقوله تعالى:
/ ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا83 )
( واذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ) أي:مما يوجب أحدهما ( أذاعوا به ) أي:أفشوه .فتعود اذاعتهم مفسدة من وجوه:
الأول:أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .
والثاني:أنه إن ذلك الخبر في جانب الأمن ،زادوا فيه زيادات كثيرة .فإذا لم توجد تلك الزيادات ،أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول .وان كان ذلك في جانب الخوف ،تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ،ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب ،فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه .
والثالث:أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام .وذلك سبب لظهور الأسرار .وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة .
والرابع:أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار .فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني .فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم ،أرجف المنافقون بذلك .فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار .فأخذوا في التحصن من المسلمين ،وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم .وان وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه ،وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين .فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه .ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير ،ومنعهم منه .أفاده الرازي .( ولو ردوه ) أي ذلك الأمر الذي جاءهم ( إلى الرسول والى أولي الأمر منهم ) وهم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضي الله عنهم ،أو الذين يؤمرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا ( لعلمه ) أي:الأمر / ( الذين يستنبطونه ) أي يستعملونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون ( منهم ) أي من الرسول وأولي الأمر .يعني لو أنهم قالوا:نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ،ونعرف الحال فيه من جهتهم ،لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا ؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير ،يعني لم يقل ( لعلموه ) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام .أو لذمهم أو للتنبيه على خطأهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر .
قال الناصر في ( الانتصاف ):في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع .وكفى به كذبا .وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو .وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم ،خيرا أو غيره .انتهى .
وقد روى مسلم{[2009]}عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع ".وعند أبي داود{[2010]}والحاكم عنه: "كفى بالمرء اثما ".ورواه الحاكم أيضا عن أبي أمامة .
هذا ،ونقل الرازي وجها آخر في الموصول .وهو أن المعني به طائفة من أولي الأمر .قال:والتقدير:ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر .وذلك لأن أولي الأمر فريقان:بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك .فقوله"منهم "يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر .فإن قيل:إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول والى أولي الأمر هم المنافقون ،فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله:( والى أولي الأمر منهم ) ؟ قلنا:إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر .لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون .ونظيره قوله تعالى:( وان منكم لمن يبطئن ){[2011]} .وقوله:( ما فعلوه إلا قليل منهم ) .انتهى .
وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطي في ( الاكليل ):قوله تعالى:( ولو ردوه ) ...الآية ،هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد .وقول المهايمي:فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف ،لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر ،ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق .وقال بعض الامامية:ثمرة الآية انه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين .وأن إذاعته قبيحة .وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته .وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين .وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا .وتدل على صحة القياس والاجتهاد .لأنه استنباط .انتهى .
تنبيه:
ما نقله الزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم ،من أن قوله تعالى:( وإذا جاءهم ) عنى به طائفة من ضعفة المسلمين – فإن أرادوا بالضعفة المنافقين ،فصحيح .وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها .وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناها .فكله لم يصب المرمى .والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول .ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه .فتبصر ولا تكن أسير التقليد .( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ( لاتبعتم الشيطان ) بالكفر والضلال ( إلا قليلا ) أي:إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب ،وعصمه عن متابعة الشيطان .كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة .كقس بن ساعدة وأضرابه .وهم عشرة .وقد أوضحت شانهم في كتابي ( ايضاح الفطرة في أهل الفترة ) في ( الفصل / الرابع عشر ) فانظره .ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني ،أن المراد بفضل الله ورحمته ،هنا ،هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم:( فأفوز فوزا عظيما ".أي:لولا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان وتوليتم الا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذين يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين .واستحسن هذا الوجه الرازي وقال:هو الأقرب إلى التحقيق .قال الخفاجي:لارتباطه بما بعده .هذا ،وزعم بعضهم أن قوله تعالى:( إلا قليلا ) مستثنى من قوله:( أذاعوه ) أو ( لعلمه ) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله .قال:لأنه لو كان مستثنى من جملة ( اتبعتم ) فسد المعنى لأنه يصير عدم إتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله .وهو لا يستقيم .وبيان لزومه أن ( لولا ) حرف امتناع لوجود .وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان .فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الأتباع عن البعض المستثنى ،ضرورة .وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم .ألا تراك إذا قلت ( لمن تذكره بحقك عليه ):لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا ،كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب .وانما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله ،لا في كله .من المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان ،الا بفضله تعالى عليه .هذا ملخص ما قرره صاحب ( الانتصاف ) ،وهول فيه .ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه ،أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه .واللازم ممنوع .لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص .وهو ما بيناه .فإن عدم الاتباع ،إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص ،لا ينافي أن يكون بفضل آخر .