لا بد من إرجاع قضايا الأمن إلئ أولي الأمر
{وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} تتابع السورة التخطيط لإلزام المجتمع بالقواعد الأساسية للسلامة العامة ،من خلال الحديث عن بعض النماذج القلقة التي انحرفت عن ذلك ،وكيف أراد القرآن لها أن تصحّح مواقفها العملية في هذا الاتجاه ؛فقد كان بعض الناس في مجتمع الرسول في المدينة مولعين بنشر كل ما يسمعونه وإذاعته ،من دون التدقيق في صدقه وكذبه ،أو في نفعه وضرره ،فيؤدي ذلك إلى إحداث حالة ارتباك في حياة المجتمع ،فقد يكون الخبر متعلقاً بالأمن من بعض الجوانب ،من خلال ما كان يعيشه المسلمون من التحديات العسكرية أمام الأعداء ،في الوقت الذي تحتاج فيه الساحة إلى الحذر واليقظة والتوتر الانفعالي والشعور بالخطر ،وقد يكون متعلقاً بالخوف من بعض الأوضاع ،في الوقت الذي يؤدي ذلك إلى سقوط الساحة تحت وطأة الرعب ،وانهيار الروح المعنوية تحت تأثير التهاويل التي تثيرها الإشاعة .
وربما تكون قضايا الأمن والخوف متصلة ببعض القضايا التي تمس جانب السلامة للإسلام والمسلمين ،عندما تتعلق بالأسرار العسكرية في الداخل والخارج ،مما يكون للحديث عنها تأثير سلبي على سلامة المجتمع في حالتي السلم والحرب .وقد وجّه القرآن المسلمين إلى التحفظ في ذلك من موقع المسؤولية ،لأن الكثيرين منهم لا يحيطون بجوانب الأمور كلها ،فقد يلتفتون إلى جانب منها فَيَحْدُثُ لهم نوع من الإثارة ،ويغفلون عن الجوانب الأخرى التي يمكن أن تعطل مفعول الإثارة في النفس ،لأنها تمثل عنصراً من عناصر التهدئة والشعور بالسلام .وقد تكون المسألة ذات أبعاد بعيدة عن الأجواء الذاتية التي يعيشها الناس ،فلا يعرفون قيمتها السلبية والإيجابية على طبيعة الأحداث العامة في حياة الناس ؛ولهذا توجه القرآن إلى المسلمين بإرجاع ذلك إلى الرسول الذي يعرف من شؤون الساحة ما لا يعلمه الآخرون ،في ما يضر وما ينفع ؛وذلك من خلال وحي الله في ما يحتاج إلى نزول الوحي ،ومن خلال الإحاطة الواقعية في نطاق الرؤية والتجربة…{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ} فيمكن أن يعرّفهم من ذلك ما لا يعرفون ،ويبصّرهم ما لا يبصرون ،أو يرجعهم إلى أهل الخبرة الذين أعدّهم للمسؤولية في حماية المجتمع وإدارته بقيادته ؛وفي حالة غياب الرسول( ص ) ،فإن عليهم إرجاعه إلى أولي الأمر الذين يملكون زمام الموقف وشرعيته من خلال مواقعهم التي وضعهم الله فيها بشكل مباشر أو غير مباشر ،وانطلاقاً من الخطة الإسلامية الموضوعة لتحديد المسؤوليات العملية في الأمة ؛{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فإنهم يدرسون ذلك من جميع جوانبه ،ويقارنونفي دراستهم لهبين جميع الأمور المتعلقة بالموضوع ،ويستنبطون منهما الفكرة الصحيحة السليمة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح ،فيوحون بإذاعة الأخبار التي لا ضرر على الموقف منها ،ويوصون بالامتناع عما يحدث الضرر للناس ،ويقودون المجتمع إلى الانضباط في ما يصلح أمره أو يفسده .
وتلك هي قضية الالتزام بالإسلام في حياة الإنسان المسلم ،فليس هو مزاجاً يتقلب حسب تقلب الظروف ،وليس شهوة يستسلم لها ،بل هو التزام بمصلحة الفرد والمجموع معاً ،وانضباط عند حدود الله في ما يأمر به وما ينهى عنه ،وإطاعة للقيادة الشرعية في توجيهها وتخطيطها وقيادتها للأمة ،فلا مجال للتحرك الذاتي إلاّ بالمقدار الذي لا يسيء إلى مصلحة حركة المجموع ،ولا مجال للذاتية في تقييم الأوضاع في علاقتها بالخطة ،بل لا بد من الرجوع إلى أولي الأمر ،لأنهم يملكون من النظرة والإحاطة والعمق ما لا يملكه الفرد أو الأفراد البعيدون عن ساحة المسؤولية .وهذا ما يمكن أن تقصده الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} في هدايتكم لدينه ،وتسديد خطاكم بوحيه ،من خلال ما رسمه لكم من خط للحياة في أمورها الصغيرة والكبيرة{لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} الذي يقودكم إلى اتباع هوى أنفسكم والاستسلام لنوازعكم الذاتية التي لا تراقب في الأشياء إلا ظواهرها السطحية ،أو نتائجها الجزئية ،لأن دوره هو أن يبعدكم عن الله في حركة الفكر في الذات وفي حركتها في التطبيق على صعيد الواقع{إِلاَّ قَلِيلاً} منكم ممن يتوقفون ليفكروا وليتأملوا وليهتدوا ،فيرجعوا إلى الخط المستقيم قبل أن تنحرف بهم الأهواء ذات اليمين وذات الشمال .
التحرك من مواقع المسؤولية لا الذاتية
وقد نستوحي من هذه الآية ،أن على العاملين في سبيل الله الذين يتحركون في عملهم في نطاق الخطة الشاملة ،أن يتحركوا من مواقع مسؤولياتهم ،لا من مواقعهم الذاتية ،فيحترمون أسرار العمل في كل شيء ،وينضبطون في أحاديثهم بالتدقيق في كل كلمة من كلماتهم ،لئلا تتحرك الكلمات في غير مصلحة الإسلام من دون وعي وتدبُّر ،ولا سيما في الظروف الصعبة التي يملك فيها أعداء الإسلام الأجهزة المعقّدة من المخابرات التي تحاول الاطلاع على كل شيء في الساحة ،لتحوّله إلى وسيلة ضغط على الإسلام والمسلمين ،كما تملك أجهزة الإعلام التي تصنع الأخبار الكاذبة وتثير الإشاعات المغرضة في قضايا الأمن والخوف ونحوهما ،من أجل أن تربك الساحة ،وتبلبل الذهنية المسلمة ،وتؤدي بالموقف إلى حالة ضياع وارتباك .
وقد لا يقتصر الأمر على المسائل المتصلة بالعمل الإسلامي ،بل يمتد إلى المسائل المتصلة بكل قضايا المسلمين في العالم سواء منها الذي يتحرك في نطاق إسلامي ،أو الذي يتحرك في نطاق عام ،ولكنهفي نهاية المطافيرتبط بمصلحة الأمة في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ،لأن من واجب المسلم أن يهتم بأمور المسلمين على كل صعيد ،فيحفظها من كل عدو ،ويصونها من كل ألوان الخطر والضياع .
وإذا كان الإسلام يرفض من المسلمين التجاوب مع الإشاعات التي يطلقها الآخرون في قضايا الأمن والخوف ،فإنه يريدمن خلال ذلكالإيحاء بخطورة الإشاعة في الأوضاع الاجتماعية والسياسية من حيث تأثيرها على الذهنية العامة في التصورات الخاطئة المضادة للحقيقة ،مما يجعلها تضغط على الواقع بالطريقة التي تربك فيها حركته في الاتجاه الصحيح وتعطل خطط القيادة الصالحة عن تنفيذ ما تريده وتخطط له من أجل المصلحة العامة .
ولعلّ من الطبيعيفي هذا الاتجاهأن نقفبحزمضد الذين يثيرون الإشاعات من أجل فضح أكاذيبهم وتعطيل مخططاتهم في الإخلال باستقرار المجتمع ،لأننا إذا أهملنا هذا الأمر ووقفنا منه موقف اللامبالاة فإن ذلك سيتحول إلى خطر على المجتمع وعلى الوضع العام كله .
وإذا كانت الإشاعات سلاحاً بيد الأعداء ،فقد تقتضي الحاجة ،من خلال المصلحة الإسلامية العليا ،العمل على إلحاق الاهتزاز النفسي والسياسي في داخل مجتمعاتهم لإسقاط أوضاعهم العامة والخاصة بذلك ،تفادياً للمعركة الأكثر خطورة وللمشكلة الأكبر تعقيداً .ولكن ذلك يحتاج إلى المزيد من الدقة ودراسة التوازنات في المصالح والمفاسد الكامنة في طبيعة الواقع لأن التسرع في مثل هذه الأوضاع يؤدي بها إلى النتائج السلبية التي ليست في مصلحة الجميع .